تفسير الجلالين
تفسير بن كثير هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم، وقدصح الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب اللّه. وقال الإمام أحمد: عن أبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأله: (أي آية في كتاب اللّه أعظم؟) قال: اللّه ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال: آية الكرسي قال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر! والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش). حديث آخر: عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته فقال: (أي فلان هل تزوجت؟) قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: (أوليس معك: قل هو اللّه أحد؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن) قال: (أليس معك: قل أيها الكافرون؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن) قال: (أليس معك: إذا زلزلت؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن)، قال: (أليس معك: إذا جاء نصر اللّه؟ قال: بلى، قال: (ربع القرآن) قال: (أليس معك آية الكرسي: اللّه لا إله إلى هو؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن) ""رواه أحمد عن أنَس بن مالك"". حديث آخر: عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: (يا أبا ذر هل صلّيت؟) قلت: لا، قال: (قم فصل)، قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: (يا أبا ذر تعوذ باللّه من شر شياطين الإنس والجن) قال، قلت: يا رسول اللّه أو للإنس شياطين؟ قال: (نعم)، قال، قلت: يا رسول اللّه الصلاة! قال: (خير موضوع من شاء أقلَّ ومن شاء أكثر) قال، قلت: يا رسول اللّه فالصوم؟ قال: (فرض مجزي وعند اللّه مزيد)، قلت: يا رسول اللّه فالصدقة، قال: (أضعاف مضاعفة)، قلت: يا رسول اللّه فأيها أفضل، قال: (جهد من مقل، أو سرّ إلى فقير)، قلت: يا رسول اللّه أي الأنبياء كان أول، قال: (آدم)، قلت: يا رسول اللّه ونبي كان، قال: (نعم نبي مكلم)، قلت: يا رسول اللّه كم المرسلون، قال: (ثلثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً) وقال مرة: (وخمسة عشر)، قلت: يا رسول اللّه أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: (آية الكرسي: { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} "" رواه أحمد والنسائي عن أبي ذر الغفاري"". حديث آخر: وقد ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ قال، قلت: يا رسول اللّه شكا حاجة شديدةٌ وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إنه سيعود) فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ قلت: يا رسول اللّه شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: ؟(أما إنه قد كذبك وسيعود)، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول اللّه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني اللّه بها فخليت سبيله، قال: (ما هي؟) قال قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أما إنه صدقك وهو كذوب. تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟) قلت: لا، قال: (ذاك شيطان). حديث آخر: عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (سورة البقرة فيها آيةٌ سيدةُ آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي) ""رواه الحاكم"" وقد رواه الترمذي ولفظه: (لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي). حديث آخر: عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن؟ فقال ابن مسعود: على الخبير سقطت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (أعظم آية في القرآن { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} ""رواه ابن مردويه"") حديث آخر: في اشتماله على اسم اللّه الأعظم، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} و { الم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} :(إن فيهما اسم اللّه الأعظم) ""رواه أحمد"" حديث آخر: عن أبي أمامة يرفعه قال: (اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه)، وقال هشام أما البقرة فـ { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي آل عمران { الم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي طه { وعنت الوجوه للحي القيوم} . حديث آخر: عن أبي أمامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) ""رواه ابن مردويه والنسائي"" حديث آخرعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من قرأ حم المؤمن؟؟ إلى { إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبح) ""رواه الترمذي وقال: حديث غريب"" وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها. (وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة) فقوله تعالى: { اللّه لا إله إلا هو} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، { الحي القيوم} أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره. وكان عمر يقرأ القيَّام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كقوله: { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} ، وقوله: { لا تأخذه سنة ولا نوم} أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلْقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنة ولا نوم. فقوله: { لا تأخذه} أي لا تغلبه { سِنَةُ} وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال { ولا نوم} لأنه أقوى من السِّنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأربع كلمات فقال: (إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وعن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا اللّه، فناداه ربه عزّ وجلّ: يا موسى سألوك هل ينام ربك؟ خذ زجاجتين في يديك فقم الليلة، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السماوات والأرض فهلكت، كما هلكت الزجاجتان في يديك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه صلى اللّه عليه وسلم آية الكرسي ""رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس"" وقوله تعالى: { له ما في السموات وما في الأرض} إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهر وسلطانه كقوله: { إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} . وقوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ، كقوله: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى} ، وكقوله: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: (آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة). وقوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً} . وقوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} أي لا يطلع أحد من علم اللّه على شيء إلا بما أعلمه اللّه عزّ وجلّ وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم اللّه عليه كقوله: { ولا يحيطون به علماً} . وقوله تعالى: { وسع كرسيه السموات والأرض} ، عن ابن عباس قال: علمه، وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين. عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه عزّ وجلّ: { وسع كرسيه السموات والأرض} قال: (كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا اللّه عزّ وجلّ) وقال السدي: الكرسي تحت العرش قال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) قال، قال أبو ذر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض) ""روى هذه الآثار ابن جرير رحمه اللّه تعالى"" وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)، وعن عمر رضي اللّه عنه قال: أتت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه أن يدخلني الجنة. قال: فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال: (إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله)، وعن الحسن البصري، أنه كان يقول: الكرسي هو العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار. وقوله تعالى: { ولا يئوده حفظهما} أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه. فقوله: { وهو العلي العظيم} ، كقوله: { وهو الكبير المتعال} وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه. { الله لا إله } أي لا معبود بحق في الوجود { إلا هو الحيُّ } الدائم بالبقاء { القيوم } المبالغ في القيام بتدبير خلقه { لاتأخذه سنة } نعاس { ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض } ملكا وخلقا وعبيدا { من ذا الذي } أي لا أحد { يشفع عنده إلا بإذنه } له فيها { يعلم ما بين أيديهم } أي الخلق { وما خلفهم } أي من أمر الدنيا والآخرة { ولا يحيطون بشيء من علمه } أي لا يعلمون شيئا من معلوماته { إلا بما شاء } أن يعلمهم به منها بأخبار الرسل { وسع كرسيه السماوات والأرض } قيل أحاط علمه بهما وقيل ملكه وقيل الكرسي نفسه مشتمل عليهما لعظمته، لحديث : ما السماوات السبع في الكرسى إلا كدارهم سبعة ألقيت في ترس { ولا يئوده } يثقله { حفظهما } أي السماوات والأرض { وهو العلي } فوق خلقه بالقهر { العظيم } الكبير .