الخطابُ النحويُّ الذي وردَ في كتبِ النّحو العربيّ منذ سيبَويْه، خطابٌ علميّ بُنيَ على استحضار أطراف ثلاثةٍ : هي الوضع، والاستعمالُ، والصنع، أو الواضعُ والمخاطَبُ والنّحويُّ.
فالواضعُ مُشرِّعٌ تؤخذ عنه اللغة وتُراعَى أوضاعُه في صحة الكلام. والمخاطَبُ متكلِّمٌ مُستعملٌ مُستهلِكٌ يُدْعَى لتجريب صحة تلك الأوضاع كما يتصوَّرها النحوي. والنحوي ناظر صانع منافس للواضع، ويزعمُ وجودَ مُطابقةِ عِلَلِه لما أرادَه، وتسير عمليةُ تحليل الأوضاع الكلامية مراعيةً حضورَ هذه الأركان.
أما الصنعُ أو الصناعةُ، فهو الوجه المقابلُ للوضع يرادُ به التمثيل والاصطناع. ولذلك أمثلة كثيرة منها قول سيبويه: «وأما قولُ النحويين: قد أعطاهوك أعطاهوني فإنما هو شيءٌ قاسوه لَمْ تَكَلَّمْ به العرَبُ، ووَضَعوا الكلامَ في غير موضِعه، وكان قياسُ هذا لو تكلمنا هيناً» . وقوله: «رأيتُ الرجلَ زيداً نفسَه، وزيدٌ بدلٌ ونَفْسُه على الاسم. وإنما ذكرتُ هذا للتّمثيل" ، وقوله: "قال الخليلُ: لو كنتُ مُحَقِّراً هذه الأسماءَ لا أحذفُ منها شيئا كما قال بعضُ النحويينَ، لقلتُ: سُفَيْرِجْلٌ، كما ترى، حتى يصير بزِنَةِ دُنَيْنير، فهذا أقربُ وإن لم يكُنْ من كلام العرب» ، وقوله: «إذا سميتَ رجلا برَجُلَيْنِ فإنّ أقْيَسَهُ وأجْودَه أن تقولَ هذا رَجلانِ ورأيتُ رَجليْنِ ومَررتُ برجُلينِ... ومن النحويين من يقولُ: هذا رَجُلانُ كَما تَرى، يجعلُه بمنزلة عُثمانَ» ، وقوله: «هذا باب استكرهه النحويون وهو قبيح فَوَضَعوا الكَلامَ فيه عَلى غَيرِ ما وَضَعَتِ العَربُ» . وقال الحسنُ بنُ قاسم المرادي: «قال ابنُ مالك: وما يوجدُ في كُتب النحويين من نحو (ما قامَ سعدٌ لكن سَعيدٌ) فمن كَلامِهِم لا مِن كَلامِ العرب» . وقال السيوطي في مسألة من مسائل الترخيم: «ولم تَعتمِد النحاةُ في ترخيمِه على سماعٍ، وإنما قالوه بالقياس...» .
فظهر من هذه النصوص أن للنحويين دخلاً كبيرا في فهم اللغة وتَقْديمها للناس، فهم لا يروون ما نطقَت به العربُ من ظواهر اللسان فحسبُ؛ ولكنهم صنعوا ظواهرَ غيرَ واردة في لسان العرب ووضعوا تعميماتٍ لم يُشرِّعْها الواضعُ. فكانَت هذه أجزاءً لبُنيانٍ نظري أُنْشِئَ على بنيان وضعي. عندما يقولُ السيوطيّ إنّ الكسائيَّ "كانَ يسمعُ الشاذَّ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه فأفسدَ النّحوَ"؛ فإنّه يدُلُّنا بحُكمِه على صَنيع الكسائيّ على أنّ النحوَ بناءٌ نظريّ مُتماسكٌ الأصلُ فيه أن يَنْتَقِيَ من ظواهر اللسانِ ما يناسبُه ويشدُّ بنيانَه النّضيدَ ويَزيدُه تماسُكاً، فإذا عَرَضَ منها ما يخالفُ ممّا سُمّي شاذا فلا بد أن يُعمَدَ إلى تلافي نَفْرَةِ الاختلاف وتجَنُّبِ "إفسادِ النحو" حتى شاعَ أن نحويّي البصرة أخلصوا للبُنيانِ النّظريّ وأنّ نَحويّي الكوفة أخْلصوا لظواهر اللسان.
وجه المقابلة بين الوضع والصنع أن النحويين يفترضون أمثلة يمكن تسميتها "بالنص المصنوع" ويعملون على أن تكون مقيسةً على الشواهد أو "النص الموضوع"، يعني ذلك تحويلَ لغة النصوص الوضعية في أشكال وتمثيلات وتجريدها عما كان يصاحبها من معانٍ مقامية لتصير يسيرة على التأويل خاضعة لضروب التفسير مطابقة لظن الناظر وحُسْبانِه.
وهكذا فإنّ النصوصَ المصطنعة كثيرة يصنعها النظر ويمثل بها على تصور اللسان وظواهره. بل يمكن عَدُّ النحوِ في أغلب مسائله وأبوابه برهنةً على طرق النحويين –مع تفاوت فيما بينهم – في صُنع نماذجَ نحويةٍ وإقامتِها بنياناً فوق وضع الواضع. وقد عبر سيبويه – وكثير من النحويين بعدَه – عن صنيع النحويين في بناء نماذجَ نظريةٍ على بنْياتِ اللسان العربي «بقياس النحويين»، ووضعِ الكلام في غير موضعه ، والتمثيلِ الذي يُمثّلُ به ولا يُتكلَّمُ به، وما ليس من كلام العرب ، وبعَقد أبواب للافتراضات والتمارين...