قال ابنُ قتيبةَ في "الشّعر والشّعراء" باب أقسام الشّعر:

« سمعت بعض أهل الأدب يَذكرُ أن مقصِّدَ القصيدِ إنما ابتدأ فيها بذكر الدِّيارِ والدِّمنِ والآثار، فبَكى وشَكا، وخاطبَ الرَّبعَ، واسْتوْقَفَ الرَّفيقَ، ليجعلَ ذلكَ سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها... ثمّ وَصلَ ذلكَ بالنَّسيب، فشَكا شدّةَ الوَجْد وألمَ الفراق وفَرْطَ الصَّبابة، والشَّوقَ، ليُميلَ نحوَه القُلوبَ، ويصرف إليه الوجوهَ، وليَستدْعِيَ به إصْغاءَ الأسماع إليه، لأنّ التَّشبيبَ قَريبٌ من النُّفوس لائطٌ بالقُلوب... فإذا علمَ أنه قد استوثقَ من الإصغاء إليه، والاسْتماعِ له، عَقبَ بإيجاب الحُقوق، فرَحَلَ في شِعْرِه، وشكا النّصَبَ والسّهرَ وسُرى اللَّيلِ وحرَّ الهجير، وإنْضاءَ الرّاحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل... بدأ في المديح، فبَعَثه على المُكافاة، وهَزّه للسَّماح، وفَضَّلَه على الأشْباهِ، وصَغَّرَ في قَدرِه الجَزيلَ.

الشاعر المُجيدُ - في نظر النّاقد - مَن سَلَكَ هذِه الأساليبَ، وعدلَ بين هذه الأقسام، وألقى بينها رداءَ التوازُن، فلم يجعلْ واحداً منها أغلبَ على الشعر، ولم يُطلْ فيُملَّ السّامعينَ، ولم يَقطعْ وبالنفوس ظمأ إلى المزيد... لقَد عرَّف الناقدُ ابنُ قتيبَةَ القصيد، وعينُه على وحدة البناء وتماسُك الأغراض واتّساقِها؛

والقصيدُ هو الشّعر الطّويلُ الذي نُظمَ على البُحورِ الطّويلَة والأوزانِ الثّقيلَة، وطافَ بالمَواضيعِ المختلفَةِ واصلاً بينَها غيرَ فاصلٍ ويُقابِلُ القصيدَ الرّجزُ، فهو بحرٌ خفيف سريع الإيقاع فيه طرب و خفّةٌ. ولا شكّ في أنّ القصيدَ يصدقُ عليه أنّه شعرٌ اتّحدَ وزنُه واتّحدَت قافيتُه، ولم يخرجْ إلى أنواعٍ أخرى من القوافي، أو ألوانٍ أخرى من الأوزان. ثمّ لا شكَّ في أنَّ أغراضَ القصيدِ التي سَلَكَها الشّاعرُ القَديمُ سِرٌّ من أسرارِ تَماسُك القصيدَةِ ووحدتِها ظاهراً وباطناً.