إن أصل الاشتقاق المعنوي واحد، وليس أصولاً متعدِّدة ؛ وذلك بأنْ يكون أحد معاني اللفظ هو الذي يدل عليه اللفظ دلالة مطابقة، وعنه تتفرع بقية المعاني .. وبالمطابقة والتفرع يكون المعنى حقيقةً، وأصلاً، وأوَّلَ، ووضعياً، وجامعاً .. وأمَّا المعاني – بالجمع – الجامعة: فإنها تعني أنَّ كلَّ معنى منها يجمع معانيَ كثيرة بالمجاز المباشر .. وكل تلك المعاني الجامعة يجمعها أصل واحد بالمجاز بالواسطة، وذلك هو (مقياس الـمَقاييس الواحد)، وتأتي نماذجُ ذلك إنْ شاء الله تعالى .. وما تفرع عنه يسمى اشتقاقاً معنوياً؛ وذلك الاشتقاق معنى مجازي .. وشرطُ واحديَّةِ الأصل أن يكون الواضعُ واحداً لا متعدداً، وأنْ تشمل دلالةُ الواضع العُرْفَ اللغوي العامَّ لدى الفصحاء: سواءٌ أكان نقل اللغة على المواضعة، أم على الارتجال، أم على استحياءٍ من لغاتٍ عربية بائدة، أم على اشتقاقٍ منها، أم على كل هذه الأنحاء .. والمعنى الأصلي الوضعي الأولي الحقيقي لا يكون بتنصيص من الفصحاءِ أهلِ السليقة، ولا يكون مُسلَّماً به من أيِّ عالم من علماء اللغة .. بل هو استنباطي يحصل باستقراء المعاني حتى يتميز المعنى الجامعُ المطابِقُ، ويحصل بالاستقراءِ يقينٌ أو رجحانٌ .. واليقين يحصل أكثر .
وإذا تعدد الواضع تعددت الأصول، وفي حكم تعدد الواضع تعدد اللهجات المتضادَّة، ووجود معنى في المادة طارئ بالتعريب، أو القلب، أو حكاية صوت.. وتطبيق كل ذلك بالاستقراء؛ واْلـمُرادُ بالوضع مادلَّتْ مطابقةُ الْـمَعْنى الكليِّ جميعَ المعاني الجزئية في الـمُفْردةِ؛ فيدُلُّ ذلك على أنَّ ذلك المعنى هو الأصْلُ، وليس الـمُرادُ بالواضعِ الدَّعاوَى الْـمِيتافيزيقية كدعوى اتِّفاقِ جماعةٍ من العرب البائدةِ أوْ الباقية على وضعِ معانيَ لتلك الـمُفْرَدةِ، فيكون ذلك تواضعاً منهم .. إلى بقية تلك الدعاوى التي بحثها أهْلُ أصولِ اللغة، وأهلُ أصول الفقه بعناوين مثلِ : مَوْلِدُ [الرفع على الحكاية] اللغة، وهل اللغة توقيفية أو اصطلاحية .. إلخ ؟.. بل بدايةُ اللغةِ (لُغَةِ كلِّ أُمَّةٍ) كانت في البدايةِ توقيفيةً بنصِّ القرآن الكريم على تعليمِ آدمَ عليه السلام الأسماء كلَّها، ثم كَثُرتْ أوْجُهُ نُمُوِّ اللغة .. وأوْجُهُ نُمُوِّ اللغة تلك كثيرة مِن نقليةٍ وعقليةٍ وطبيعيةٍ حِسِّيَّةٍ ستبرزُ إنْ شاء اللهُ تعالى واحدةً واحدةً في تناولي مُفْرَداتِ الكلمات، والصِّيغِ (الأوزان)، وحروفِ المعاني (الروابط)، ودلالات السياق (وعلم الدَّلالةِ علمٌ واسعٌ كثير الذيول)، ودلالاتُ تركيبِ الكلامِ نحواً وبلاغةً (والبلاغةُ هي النحو الثاني كما عند الإمام عبدالقاهر رحمه الله تعالى).. وأَهَمُّ أوْجُهِ نُمُوِّ اللغة النُّمُوُّ مِن دلالةِ التوقيفِ منذُ كانت اللغةُ لُغَةَ وصفٍ للعرب البائدة، وليستْ لغةَ عرقٍ؛ والعربُ كافَّةً هم ذُريَّةُ إسماعيلَ الذبيح بنِ إبراهيمَ الخليل عليهما الصلاة والسلام، وعلى نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والرسل، وعلى جميعِ مَن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم ومنهم برحمتك يا أرْحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين .. وتلك هي اللغة الفصحى، وذُرِّيَّةُ كلِّ العربِ عِرقاً هم بنو عدنانَ وقحطان؛ ذلك هو دلالةُ القرآن الكريم، والأحاديثِ الصحيحةِ، وهو مَذهبُ الفقهاء والـمُحَدِّثين، وما سواه هو مذهب كذبةِ النسابين كابن الكلبي ووالده والْعَمِّي وغيرهم بكيدٍ مِن يهودَ .. ويأتي بيانُ كل ذلك، والبراهينُ القاطعةُ عليه إن شاء الله تعالى خلالَ هذه المقاييس في الكلام عن الشعوبيةِ الأُمَمِيَّة الكائدةِ الإسلامَ وأهْلَه، الـمُنْتَقِمَةَ لدولِ أُمَمِهِم كسقوط كسرى وقيصرَ وكلِّ (خاقانَ)، ومن ذلك بعض شعوبيةِ بشارِ بن برد، وقد عُرِفوا في العصر العباسي بالزنادقة.. ثمَّ الحديثُ عن الشعوبيةِ العربية كشعوبية أبي نواس في مدائحهِ مواليه الْحَكَمِيِّيْن.. وعن الشعوبية العربية التي لا تُعْرفُ إلا بـ (العُنْصُرِيَّةِ العربيةِ) ضِدَّ الأمم .. وكلُّ مَن أسلم مِن الأمم فهو عندهم (مَوْلَى) سواءٌ أَمَرَّ عليه رِقٌّ، أمْ لَمْ يَمُُرّْ؛ وهذه هي العصبية التي وصفها الشرعُ الـمُطهَّرُ بأنها مُنتنةٌ، وبأنها من دعاوَى الجاهِلية، وقد يكون آباءُ الْـمُتعصِّبِ قُطُّاعَ طُرِقٍ، أو جبناءَ، أوْ ذوي أُبْنةٍ؛ وكلُّهم بَوَّالٌ على عَقِبيه؛ فقبَّح الله ذلك الفخرَ، وذلك الانتماءَ الهزيل.. ثم الحديثُ عن العصبيَّةِ الكريمةِ للعرب بالشرط الإسلامي؛ لكونِ الرُّقْعَةِ العربية المحدودةِ، والرقعةِ الإسلامية الواسعة مَمْهورةً بجهادهم الـمُقَدَّسِ في القرونِ الثلاثةِ الأولى الممدوحةِ شرعاً، ولكون العرب هم الـمَرْجعَ في فهمِ الخطابِ الشرعي، وتوعَّدهم ربُّهم سبحانه وتعالى إنْ تولَّوا أنْ يستبدلَ قوماً غيرهَم ثم لا يكونوا أمثالَهم؛ فكان صلاح الدين الأيُّوبي، وبيبرس، وكافور، ومحمد الفاتح .. إلخ رحمهم الله جميعاً .. ثم يأتي الحديثُ عن عصبيَّةِ أبناءِ الأمم الأخرى ضِدَّ الإسلامِ وأهلِهِ سواءٌ أكانوا موالي مَرَّ عليهم رِقٌّ، أم كانوا موالي للإسلام وأهله وإن لَمْ يمُرّْ عليهم رِقٌّ أمثالُ البخاريِّ ومسلم وسفيانِ بن عيينه الهلالي ولاءً رضي الله عنهم أجمعين .. ومنهم منجنيقُ أهل الإسلام الإمامُ أبو مُحمَّدٍ عليُّ بنُ أحمد ابن حزم قدَّسَ الله روحه وَنَوَّرَ ضريحَه القائلُ :
سما بيَ ساسانٌ ودارا وبَعْدهُمْ *** قَرُيْشُ العُلا أَعْياصُها والعنابِسُ
فلا حَرْبٌ أخَّرَتْ مراتبَ سُؤْدَدِيْ *** ولا قَعَدَتْ بيْ عن ذُرَى المجدِ فارسُ
فَفَخُرَ ولاءً عربياً بقريشٍ رَحِمِ العروبةِ خُلفاءَ وفقهاءَ وملوكَ رحمة، وفَخرُ عِرقاً بملوك قومه – وقد بيَّن الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابِه (الصِّراطُ الـمُسْتقيم) – الرفعُ على الحكاية – : أن باديةَ الفُرْسِ في الـمَرتبة الثانية بعد العرب مِن جهة نجابةِ العِرْق ومكارمِ الأخلاق التي هذَّبها الإسلام، وأنَّ ملوكهم أهلُ عدلٍ في الرعيةِ؛ فأنْعِمْ بالـمَفْخرين.
قال أبو عبدالرحمن: والاشتقاق المعنوي هو اللبُّ، وهو الذي يحتاج إليه العامَّة والخاصة؛ لِيَتَيَسَّرَ حفظ متن اللغة تِلْقائياً ؛ لأن بيان اشتقاق المعنى يحتاج إلى تفسير وتعليل، والتعليل يُرسِّـخ المادة في الذهن، ويعينه على الإلمام بتسلسل المعاني.. وأنت تحفظ ما تعقله أكثر مما تحفظ ما لا تعقله .. وهذا الاشتـقاق أجلُّ مطلب تُدوَّن عليه جميع مفردات اللغة ومعانيها في معجم جامع، وهذا الاشتقاق أيضاً أصَّـلَه الإمامُ ابنُ فارس رحمه الله تعالى في كتابه (مقاييس اللغة)؛ وكان ذلك التأصيل تجربة هو رائدها، ولم تصقلها العقول بعده ؛ فعِظَمُ ما لديه لا يحتاج إلى استدراك وتتميم .. وَوُجِد هذا الفنُّ لفتاتٍ مفرَّقةً في بعض المعاجم قبل ابن فارس وبعده، وأكثر مَن يحفل بذلك الخليل وابن دريد والراغب والزمخشري .. ويلي هذا الاشتقاقَ ذلك الاشتقاقُ المعنوي لموادَّ تشترك في الحروف، وتختلف بالتقديم والتأخير .. وهو يلي في الأهمية الاشتقاق المعنوي للمادة الواحدة .. وقد وردت لمساتٌ من ذلك في الكلام عن الجذر الثنائي، وما يُحْدثه من معنى جامع كالنفاذ لنفت ونفث ونفد ونفذ ونفر ونفز ونفح ونفج ونفخ ونفس ونفش .. إلخ، ووردت لمساتٌ من ذلك في قلب المادة كصنيع ابن جني في قَوَلَ وولق ولوق ووقل ولقو .. وأمَّا ما يسمونه اشتقاقاً لفظياً فذلك تجوُّز؛ وإنما هو تحويلٌ إلى صيغٍ موجودة عند العرب حاضرةٍ بأوزانها ومعانيها .
قال أبو عبدالرحمن: وبوسعي اليوم استقراءُ بعضِ المواد من مقاييس اللغة لابن فارس ؛ فقد ذكر رحمه الله تعالى مادةَ الظاء واللام والميم التي فيها الظُّلْمُ والظلام، وجعلها أصلين صحيحين: أحدهما خلاف الضياء والنور، والآخر خلاف العدل الذي وصفه بوضع الشيـئِ في غير موضعه تعدياً .
قال أبو عبدالرحمن: هذان المعنيان في استعمال العرب قاطبة ؛ فلا يمكن تعدُّدُ الأصول، بل الأصل واحد، وهو المضادُّ الضِّياءَ .. والظلمة في مجرى العادة غير محمودة للبشر ؛ فاشتقوا منها خلاف العدل ؛ لأن خلاف العدل ظلام في العقل لم يصدر عن فكر نيِّر، وظلام في القلب لم يصدر عن نورِ إيمان، وظلام في السلوك تتخبط به حياةُ الناس في العمى، وجزاؤه دنياً وآخرة ظُلمات في التدبير تمنع من تدبير نيِّر، وظلمات في النار ؛ ولهذا قيل: الظلم ظلمات .. والقاعدة أن اللفظ الأقلَّ مبنى هو الأقدمُ في استعمال المادة ؛ ولهذا أذهب إلى أنَّ الأصل: ظَلَمَ ظَلَماً – بتحريكِ الأحرفِ -؛ وذلك هو الظلام، وظلم ظُلْماً بالضم فالسكون فالفتحِ مع التنوين؛ وذلك يكونُ ضدَّ العدلِ .. وأما قول ابن فارس رحمه الله عن (ظُلْمَةٌ) : «لا يشتق منه فِعْلٌ» : فيريد أنَّ فِعْلَهُ خلافُ الضِّياءِ الذي فِعْلُهُ رباعِيٌّ .. أي : (أضاء) رباعي لا ثلاثي .
قال أبو عبدالرحمن: لا نقول: لا يُشتق منه (فَعَلَ)؛ بل نقولُ : فِعْلُه، ثلاثي أُميت؛ فجعلوا الرباعي أظلم بخلاف الضياءِ، وخصصوا الثلاثي (ظَلَمَ) بخلافِ العدل؛ إذن الظُّلْمة والظَّـلَمَ بالتحريك بمعنى خلاف الضياء من الفعل الثلاثي (ظَلَم) الذي خُصِّــص فيما بعد لخلاف العدل ؛ فصارت الظلمة اسماً للظلام كما نص على ذلك ابن فارس .. ويلحق بها الظَّـلَمُ المحركة .. قال ابن فارس: «لقيته أول ذي ظُلْمة .. قال الخليل: هو أول شيئ سد بصرك في الرُّؤْية.. لا يُشتق منه فَعَلَ [قال أبو عبدالرحمن : ظُلْمة، وظَلَمٌ ذات فعل مُمَات هو الماضي ظَلَمَ بالنسبة للظلام اُسْتُغْني عنه بالرباعي أظلم؛ فهو بمعنى (ظَلَمَ ظَلَماً)؛ و(الظَّلَمُ) هو المصدر؛ فَلَمّْا أُمِيْتَ المصدرُ (ظَلَمٌ) صار بِمَعْنى (أَظْلَمَ) الرُّباعيِّ وبقي الثلاثي ظَلَمَ لخلاف العدل] .. ومن هذا قولهم: لقيته أدنى ظَلَمٍ للقريب» [مقاييس اللغة 3/462] .
قال أبو عبدالرحمن: ويقال أيضاً لأول ما يسدُّ بصرك: لقيته أدنى ذي ظَلَمٍ.. وأول الشيئ نحوك هو القريب إليك ؛ فالقريب والأول ههنا في الاستعمال واحد.. والمهمُّ أن فِعْلَ ظَلَم اقْتُصِر به على خلاف العدل، وجُعل لخلاف الضياء الفعلِ الرباعي (أظْلم)، وبقي الظَّلَمُ الـمُحَرَّكُ من فِعْلِ ظلم مرادفاً للظلام من أظلم .. وههنا وقفتان مع كلام الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى حول هذه المادة:
الوقفة الأولى: قولُ ابن فارس: «ويقولونه بألفاظ أُخَرُ مركَّبةٌ من الظاء واللام والميم؛ وأصْلُ ذلك الظُّلمة .. كأنهم يجعلون الشخص ظُلْمة في التشبيه، وذلك كتسميتهم الشخص سواداً ؛ فعلى هذا يحمل الباب، وهو من غريب ما يحمل عليه كلامهم» [مقاييس اللغة 3/468] .
قال أبو عبدالرحمن: أمَّا (لقيته أول ذي ظُلمة)، أو (أدنى ذي ظَلمٍ): فذلك حقيقة لا مجاز فيه ؛ لأنَّ المرادَ الإظلامُ على البصر الذي أحدثه الإنسان، وليس المراد الإنسان نَفْسُه .. وأما قولُ ابن فارس: «كتسميتهم الشخص سواداً» ؛ فذلك وصْفٌ لا تسمية؛ فلا مجاز ؛ لأن الشخص من بُعْدٍ يكون في رؤية البصر هذه سواداً.
والوقفة الأخرى: أنَّ ابن فارس عرَّف الظُّلْم – بمعنى ضد العدل – بأنه وَضْع الشيئ في غيرِ موضعه تعدُّياً؛ وهذا رأي قال به كثير .. إلا أنهم لم يحتاطوا احتياطَ ابن فارس بذكر التعدِّي، وبعضهم عرَّف الظُّلْمَ بأنْ تتصرف في مُلْكِ غيرِك بلا إذنه؛ وهذا نوع من الظلم؛ فإلى لقاء عاجلٍ إن شاء الله تعالى الأسبوعَ القادمَ في مثلِ هذا اليوم؛ والله الـمُسْتعانُ، وعليه الاتكال.