ذهب بعض أهل العلم باللغة إلى التفريق بين البِنية والبُنية، وعلى رأسهم حماد بن سلمة، فقد ورد بسند صحيح عن الأصمعي، قال: «كنت عند شعبة، فأتاه حماد بن سلمة، فقال شعبة: هذا الفتى الذي وصفته لك، يعنيني، فقال لي حماد: كيف تروي:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ...
[فقلت:
... أحسنوا البِنَى *** وإنْ عاهدوا أوْفَوا وإن عقَدوا شَدّوا]
فقال حماد لشعبة: ليس كما روى؟ فقلت: كيف تنشده يا عم؟ فقال: البُنا، سمعت أعرابيا يقول: بَنَى يَبْنِي بناء من الأبنية، وبَنَا يَبْنُو من الشرف. [وفي رواية: القوم إنما بنوا المكارم، ولم يبنوا باللَّبِن والطين].
فكنت بعد ذلك أتوقى حماد بن سلمة أن أنشده إلا ما أتقنه».
رواه أبو أحمد العسكري من طريق التَّوَّزي في "شرح ما يقع فيه التصحيف (ص/ 97-98)، وعنه الصفدي في "تصحيح التصحيف وتحرير التحريف" (ص/172) ومنه أصلحنا السقط الواقع في المطبوع من كتاب أبي أحمد.

ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (37/ 486-487) من طريق محمد بن عبيد الله القرشي، كما رواه (37/ 65-66) من طريق عمرو الزئبقي التي نقلها المزي في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (18/ 386) عن أبي سليمان الخطابي، ومنهما نقلت الزيادة الثانية.

وأضاف ابن عساكر معلقا (37/ 65-66): « قال أبو سليمان: وأنشد[ـــنيه] بعض الأبيات عن محمد بن حاتم المظفّري، أنشدناه الرياشي، فقال: البُنا - بضم الباء-، قال: وواحدتها بُنية؛ قال أبو العباس محمد بن يزيد: واحدتها بِنية وبُنية، وجمع بِنية بِنى، مثل كسرة وكسر، وجمع بُنية بُنا، مثل ظلمة وظلم، فأما المصدر من: بنيت بناء، فممدود.

ويشبه أن يكون حماد إنما اختار الضمة وأنكر الكسرة فيها لئلا تلتبس بالبناء الذي هو باللبن والطين، إذ كان من مذهبهم أن يستجيزوا قصر الممدود في الشعر». وبمثله تقريبا علق المزي.
قلت: قول الخطابي في كتابه "غريب الحديث"(1/ 62-63) ، وقول المبرد في "الكامل في اللغة والأدب" (2/ 717) بنحوه.

وفي الخصائص لابن جني (3/ 298-299): « وحكى الأصمعي قال: دخلت على حماد بن سلمة وأنا حدث، فقال لي: كيف تنشد قول الحطيئة: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ماذا.
فقلت:

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البِنَى *** وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فقال: يا بُنَيّ، أحسنوا البُنا. يقال: بنى يبني بناء في العمران، وبنا يبنوُ بُنًا، في الشرف. هكذا هذه الحكاية، رويناها عن بعض أصحابنا. وأما الجماعة فعندها أن الواحد من ذلك: بُنية، وبِنية؛ فالجمع على ذلك: البُنَا، والبِنَى».
وفي "التلخيص في معرفة أسماء الأشياء" لأبي هلال العسكري(ص/ 175):
« ويُقالُ: بنيةٌ وبنىً، مقصورٌ، وبُنيةٌ وبُنىً. قالَ:
أولئكَ قومٌ إنْ بَنُوا أحسنُوا البُنى
وسَمعتُ أبا أحمدَ يقولُ: بنَا يبنُو، منَ المجدِ، وبنَى يبنْي، من البناءِ. ولا أعرف صحة ذلك».
قلت: قد صح كما مر. وإذا كان ذلك كذلك فإن جمع بُنْيَة بُنَا، والنسبة إليها بُنْيِيٌّ وبُنَوِيٌّ، وجمع ابْن أبناء، والنسبة إليه ابنيٌّ وبَنَويٌّ، وجمع بِنْيَة بِنَى، والنسبة إليها بِنْيِيٌّ وبِنَوِيٌّ، وجمع بِناء أبنية، والنسبة إليه بِنائي.

وقد تعلق بالبُنْيَة <Structure> علماء يهود في العصر الحديث وعلى رأسهم فرديناند دو سوسير (ت1913م)، ومؤولاه شارل بالي(ت1947م)، وألبرت سيشهاي (ت1946م)، ومروِّج علومه رومان يعقوب (ت1982م)، وظهر جراء ذلك في الستينات ما يسمى <structuralism>.

ولكن الباحثين اضطربوا في ترجمة هذه الكلمة إلى العربية، فعند عبد الرحمن حاج صالح البِنوية، وعند جميل صليبا المذهب البِنيي، وعند محمد التونجي البُنيوية، وعند كمال أبي ديب البِنيوية، وعند ريمون طحان البنيانية، وعند الراجي الهاشمي البناوية، وعند صلاح أبي فضل البنائية...وهنالك ترجمات أخرى كالهيكلية، والهيكلانية، والتركيبية، والشكلية، والشكلانية، والستروكتورالية...!

ومن جميل ما يعتبر به ههنا ما قاله الله تعالى في اليهود: ï´؟... تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَï´¾[الحشر:14]؛ عن قتادة قال: «تجد أهل الباطل مختلفة شهادتهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحقّ».