من أشهر مقولات أصول النحو ما نقله ابن جني عن المازني صاحب كتاب التصريف الذي عرف من طريق شرح ابن جني (المنصف)، وهو قوله "وكان الخليل وسيبويه يأبيان ذلك ويقولان: ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم"(1)، وعرف عن العرب أنهم اشتقوا من أسماء الأعيان فقالوا: استنسر البغاث أي صار كالنسر واستنوق الجمل أي صار كالناقة، ومن الأسماء والصفات التي زيدت فيها النون (ضيْفنٌ) أي ضيف الضيف، "وقد جاء على فَعْلَنٍ ما أذكره: قالوا: (امرأة خَلْبَن) وهو من الخلابة، و(ناقة عَلْجَن) وهي الغليظة، مأخوذة من العِلْج... وحكى سيبويه: في خُلُق فلان (خِلَفْنَة) وهو من الاختلاف، والنون في هذا كله زائدة. ومثله (عِرَضْنَة) وهي من الاعتراض"(3).
وقد اجتمع من ذلك طائفة صالحة(4) أجاءت مجمع اللغة العربية إلى إجازة الاشتقاق من أسماء الأعيان(5)، فجذور الاسم من (نسر) و(ناقة) جعلت جذور فعل في استنسر واستنوق.
استعمل المحدثون نحوًا من ذلك حين قالوا: شرعن يشرعن شرعنة، كما في هذا الخبر "وفاة القاضي الإسرائيلي (ليفي) الذي شرعن الاحتلال"(5). وقول إبراهيم التركي "ولتبقى السيرة الذاتية مشروع أمانة وشرعنة قيمة"(6)، ومثل ذلك استعمالهم الفعل، صنّم يصنِّم تصنيًا، قال إبراهيم التركي "لن نجنيَ شيئًا من خَطابيّة (تحطيم) المنتَج أو (تصنيمه)"(7)، وقالوا (مأسس يمأسس مأسسة)، كما ورد في قول عبد الوهاب بدرخان "وفي لبنان، حيث اعتُمد دستور يمأسس الطائفية ويجعل المكانة الخاصة للمسيحيين في النظام بمثابة ميثاق وطني"(8)، وقول إبراهيم التركي "ولكنه يدين له بفضل التأصيل المعرفي لمادةٍ لم نتهيأْ، ربما حتى اليوم، لمأسسةِ مرتكزاتها النظرية"(9). ومن ذلك قول إبراهيم التركي "ويبقى حريًّا بالباحث المنصف أن يقترب من الحقّ فيشخّص القضايا ولا يشخصنها"(10).
إذا تأملنا استعمال المحدثين للأفعال (شرْعَنَ) و(صنّم) و(مأْسَسَ)، و(شخصن)، نجد أنهم اشتقوها من (شرْع) ومن (صنَم)، ومن (مؤسسة)، ومن (شخْص)، وشرْع منقول من المصدر للدلالة على جملة القواعد والأنظمة المتعلقة بمصالح الناس وتعاملهم، وصنَم اسم عين، ومؤسسة منقول من اسم المفعول للدلالة على منظومة إدارية تنجز ما هيئت له وكلفته، فشرْع ومؤسسة صارا بهذا اسمين من أسماء الأعيان مثل صنَم، ثم إن المحدثين تلطفوا في صوغ أفعال منها تلبي دلالة لا تفي أصولهما بالوفاء به، فالشرع من شرّع وضع القاعدة أو النظام، أما شرعن الشيء فهو وصف الشيء بالشرعيّة، وأما صنّم فجعل الشيء والأمر والشخص جامدًا معكوفًا عليه كالصنم، وكذا الفعل (مأسس الأمر) هو جعله متصفًا بصفات المؤسسة وشروطها وبراءته من الفردية، وأما (شخصن) فمن اسم جامد هو (شخْص)، ويتضح بجلاء اختلاف معنى الفعلين من جذر واحد (شخّص) و(شخصن)؛ إذ زيد أحدهما زيادة مطردة وزيد الآخر زيادة غير مطردة، فالتشخيص بيان للقضايا أنفسها بما يجعلها شاخصة ظاهرة، وأما شخصنتها فترك القضايا والانصراف إلى الأشخاص ذوي العلاقة بها، وأوضح أمثلة ذلك نقد رواية أو قصيدة فإن كان موجهًا لموضوعها ونصّها وفاق معايير تعامل به كما تعامل به أعمال أخرى فهذا تشخيص، وأما إن كان النقد موجًا لكاتبها للحط من شأنه أو ذمّه فتلك شخصنة، ومن الشخصنة أن يكون المبدع هو الدافع للنقد لا الإبداع نفسه، ومنه أن تساق القضايا مراعى فيها الشخص لا الموضوع. فالتشخيص عمل موضوعي والشخصنة عمل غير موضوعي.
وطريقة الاشتقاق هي زيادة أحرف على جذر الفعل أو الاسم، وعرفنا في العربية طريقتين لهذه الزيادة، إحداهما مطردة وغرضها اشتقاقي، وهي ما يكون للحرف الزائد موضع خاص في بنية اللفظ وله دلالة بنائية تزيد عن دلالة الجذر المعجمية، مثل دلالة الألف على اسم الفاعل في قائم وقاعد وقادم، والأخرى غير مطردة وغرضها إلحاقي أي إنها تُلحق اللفظ ذي الجذر الثلاثي بما هو ذو جذر رباعي، فالجذر (ب/ط/ر) يكون بزيادة الياء رباعيًّا (ب/ي/ط/ر)، وليس المزيد في الملحقات صوت ثابت وليس له موضع ثابت؛ فقد يكون قبل الفاء أو بعدها أو بعد العين أو بعد اللام، والدلالة التي تهبها هذه الزيادة خاصة باللفظ تجعل له دلالة معجمية تفارق أصله؛ فلا تكون فرعًا على دلالة الأصل كما في الزيادات المطردة (غير الإلحاقية). فالمحدثون الذين ولدوا (شرعن) و(مأسس) أعملوا طريقة صرفية معروفة، فلم يخالفوا بذلك بنية صرفية، فالفعلان هما من حيث البناء على (فَعْلَلَ) ومن حيث الوزن الكاشف عن الأصل والزائد هما (فَعْلَنَ) و(مَفْعَلَ). وكذا (صنّم) فعل على بناء فَعَّلَ ووزنه.
ننتهي إلى أنه لا حجة لمن ينكر على المحدثين توليد (شرعن) وأمثاله؛ إذ هو توليد دعت الحاجة الدلالية إليه ولم يعاند قاعدة صرفية، ومن العجب أن نستوعب من الدخيل ما تمجّه الذائقة وتقتحمه العين ثم نتوقف في توليد لفظ من جذر عربي بقياس مُتْلَئِبّ.