تَعامى كثيرٌ من المُثَقَّفين العَربِ "المُستغْرِبين" عن الاختلافِ بينَ ثَقافةِ العَرَبِ، التي لَها أُصولُها وجُذورُها وظُروفُ نَشأتِها، وثَقافةِ الغَرْبِ التي هي نَتاجٌ للفلسفةِ الغربيّةِ خلالَ ثلاثمئةِ عامٍ من تطوُّرِها، والاخْتلافِ بين مقولاتٍ وُلدَت من رَحِمِ الحَداثةِ الغَربيّة وجاءَت نتاجَ ثقافةٍ غربيّةٍ خالصةٍ، وبين مَقولاتٍ هي من صُلبِ الحَضارةِ الإسلاميّةِ، وخَلَطوا بين "التَّحْديثِ" و"الحَداثَة"، بل منهم من أشْفَقَ على الحَداثةِ في بَعضِ أقطارِ العالَم العَربيّ، عندَما "لاحظَ" أنّها في سياقِ التّحوُّلاتِ الجاريةِ تواجهُ عوائقَ عدّةً، منها «ضعفُ المجتمعِ المدنيّ» و«الطّبيعةُ الاستبدادية للسّلطة» و«نقصُ المهارةِ التّقنيّة» و«الوقوفُ في وجهِ كُلِّ مُحاولةٍ لفَصلِ الدّولةِ عن الدّين»
ومنهم من ادَّعى النّزاهَةَ في النّظرِ إلى "الحداثةِ"، والموضوعيّةَ في البحثِ في جُذورِها التّاريخيّةِ في الثّقافةِ والأدبِ العربيّين، فذَهَبَ إلى أنّها أحدثَتْ "صَدمةً" (1) في جِسمِ هذه الثّقافةِ، وتَصادُماً بينَ تياريْنِ.
ومنهم من تَوسّطَ فرأى أنّه لا توجدُ حَداثةٌ مُطْلَقة كلّيةٌ عالميّةٌ، بل الحداثةُ "حداثاتٌ" مُخْتلِفةٌ باختلافِ الزمانِ والمكانِ والتّجربةِ، ومشروطةٌ بظروفِها، ولذلك يَنبغي مُراعاةُ أثرِ "الخاصِّ" في الثّقافةِ العربيّةِ المعاصرةِ، وهو الأثرُ الذي يَجعلُ من هذه الحداثةِ "حداثةً عربيّةً"؛ لأنّ النّسخَةَ العربيّةَ التي نقلت نّتائجَ الفكرِ الغربيّ الأخيرَةَ لم تُراعِ أنّ لكلِّ فكرٍ مُقَدِّماتِه المنطقيّةَ، واستخْدمَت مُصطلحاتٍ جمَعت بين غرابةِ الاشتِقاقِ وغُرْبَةِ النّقلِ إلى "لغةٍ" جديدةٍ. ورأى هذا التّيارُ أنّنا بحاجةٍ إلى «حداثةٍ حقيقيّةٍ تهزُّ الجُمودَ وتُدَمِّرُ التَّخَلُّفَ وتُحَقِّقُ الاسْتِنارةَ، لكنّها يجبُ أن تَكونَ حَداثَتنا نحنُ، وألاّ تكونَ نُسخَةً شائِهةً من الحَداثةِ الغربيّة» (2).
ترشيدُ الحَداثَة
ونجدُ الطّريقَ السّالكةَ في موقفٍ ثالثٍ، يتميَّزُ عن سابقَيْه بنَقدِ الأُسُسِ التي قامَت عليها الحَداثَةُ العَرَبِيَّةُ خُصوصًا، والحَضارةُ الغَرْبيّةُ على وجهِ العُمومِ (3)، فهي حضارةٌ تقومُ على "العقلانيّةِ"و تفتقرُ إلى "الأخلاقيّة"، وصارَ راسخًا في الأذهانِ بوساطةِ السّيلِ الجارِفِ ممّا تحمِلُه هذه الحَضارةُ الحَديثةُ من أقوالٍ وأفعالٍ، أنّ الأخلاقَ لا تخدمُ إلاّ الضّعفَ في النّفسِ والخذْلانَ في السّلوك، فيَنبَغي إعادةُ صياغةِ هذِه الحَضارةِ بتَسْديدِها بالأسُس الأخلاقيّة، حتّى تهتدِيَ إلى معرفةِ المقاصدِ النّافعةِ، وإسْنادِها بسَنَدِ المرجعيّةِ العَربيّةِ الإسلاميّةِ، التي تَحمي الثّوابِتَ من صَدمةِ الاهْتِزازِ، والذّاتَ من الذّوَبانِ .