تاريخ القرآن الكريم
تلخيص الدكتور محمد جمال صقر
يعرض الباحثون المسلمون العرب عن تاريخ القرآن الكريم، رهبة أحيانا، وعجزا أحيانا؛ فتنفرد في الساحة مقالات المخالفين الهدامة.
لقد صحت لدينا أخبار بنزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، في ثلاث هيئات من المواقف النبوية: إقرار مختلفين، حوار ملائكي نبوي، توجيه المسلمين.
من العلماء من فهم تلك السَّبْعِيَّة على أنها وجوه عامة متفرقة في القرآن الكريم (ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن)، ومنهم من فهمها على أنها وجوه خاصة متكررة في الموضع الواحد (الطبري في تفسيره)، ومنهم من فهمها وأنا منهم على أنها كناية تَوْسيعيَّة تَيْسيرية (شاهين في تاريخ القرآن)، وكلهم مجمع على وقوع الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، على هذه الأنحاء السبعة الآتية التي ذكرها ابن قتيبة:
1 الاختلاف في إعراب الكلمة أو حركة بنائها بما لا يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، كقوله -تعالى!-: "هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ"، وقرئت بالنصب.
2 الاختلاف في إعراب الكلمة أو حركة بنائها بما يغير معناها ولا يغير صورتها في الكتاب، كقوله -تعالى!-: "رَبَّنَاْ بَاْعِدْ بَيْنَ أَسْفَاْرِنَاْ"، وقراءةِ "بَاْعَدَ".
3 الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يغير صورتها، كقوله -تعالى!-: "كَيْفَ نُنْشِزُهَاْ"، وقراءةِ "نُنْشِرُهَاْ".
4 الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، كقوله -تعالى!-: "إِنْ كَاْنَتْ إِلَّاْ صَيْحَةً وَاْحِدَةً"، وقراءةِ "زَقْيَةً".
5 الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها ومعناها، نحو قوله -تعالى!-: "وَطَلْحٍ مَنْضُوْدٍ"، وقراءةِ "وَطَلْعٍ".
6 الاختلاف بالتقديم والتأخير، نحو قوله -تعالى!-: "وَجَاْءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ"، وقراءةِ "وَجَاْءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ".
7 الاختلاف بالزيادة والنقصان، نحو قوله -تعالى!: "لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُوْنَ نَعْجَةً"، وقراءةِ "نَعْجَةً أُنْثَىْ".
كان المراد بتلك السبعية تمكين كل مسلم من أن يقرأ على ما لَقَّنَه مُعَلِّمُه الرسولُ -صلى الله عليه، وسلم!- أو الصحابيُّ -رضي الله عنه!- من غير أن يقلد قراءة غيره، ولا أن يكره غيره على قراءته.
وقد خلت المرحلة المكية من حدوث تلك الاختلافات أصلا فلم ينشأ داع إلى تلك السبعية التوسيعية التيسيرية، ثم لما انفتحت المرحلة المدنية على العالم ودخل الناس في دين الله أفواجا واصطخبت الوفود، ظهرت تلك الاختلافات، ونشأ داعي السبعية، حتى إذا ما تمكنت المرحلة المدنية في عهد عثمان بن عفان، انتهت الرخصة، وانحسمت الاختلافات.
لم تكن القراءة والكتابة شائعتين في العرب؛ فلم يتيسر لرسول الله -صلى الله علي، وسلم!- أن يتعلمهما، ولكنهم وهو منهم كانوا حداد الذواكر، لا يفلتون حرفا مما يسمعون، فلما نزل القرآن مُنَجَّمًا حفظوه ، وحفظه من قبلهم رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وأعانه دائما جبريل أمين الوحي -عليه السلام!- ولا سيما في عامه الأخير، ففهم من الإعادة قرب الأجل!
وعلى قلة القراءة والكتابة في العرب، كان من صحابة رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- من يعرفهما، وحرص هو على أن يتعلمهما سائر صحابته، حتى بلغ كتاب الوحي ثلاثة وأربعين كاتبا، منهم الخلفاء الأربعة والزبير بن العوام وأبي بن كعب وزيد بن ثابت. ولا يمتنع أن تتميز على الزمان الطويل لرسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- معالم من خصائص الكتابة، ولكن بعد فوات السن ووجود العَوْن!
ثبت تسجيل القرآن الكريم حفظا وكتابة إذن على عهد رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- ولكن على حين أجازت المشافهة من وجوه تلك السبعية ما اتُّسِع فيه وتَيَسَّر، لم تثبت الكتابة غير وجه واحد كُتِبَ به القرآن الكريم على كل ما يمكن الكتابة عليه من الأدوات الطبيعية، بخط عربي معجم (منقوط نقط تمييز الحروف المشتبهة).
ثم لما كثر الموت في القُرّاء انقطع لجمعه من تلك الأدوات ومن صدور الرجال زيد بن ثابت بدعوة أبي بكر وأعانه عليه عمر بن الخطاب وسالم بن معقل وأبي بن كعب -رضي الله عنهم أجمعين!- ثم ظل عند أبي بكر ثم عمر، ثم حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم أجمعين!
ثم لما خيفت فتنة المفاضلة بين الاختلافات في عهد عثمان بن عفان استن بسنة من قبله، وأمر بنسخ المصحف الإمام بخط عربي مُجَرَّد (غير منقوط نقط الإعجام السابق جَمْعًا بين الوجوه الصحيحة)، قام له زيد بن ثابت نفسه وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وانتسخت منه النسخ، وأرسلت إلى الآفاق.
ثم لما خيفت في زمان الأمويين فتنة أخطاء المستعربين والموالي، أضاف أبو الأسود الدؤلي إلى رسم المصحف الإمام نقط الضبط (التشكيل)، وأعاد نصر بن عاصم ثم يحيى بن يعمر نقط الإعجام (تمييز الحروف المشتبهة)، ثم لما التبس النَّقْطان مُيِّزَ بينهما بتغيير اللون، ثم غَيَّرَ الخليل بن أحمد نَقْط الضبط (التشكيل)، إلى ما نحن عليه الآن من علامات، وبقي نقط الإعجام على حاله.
وقد فهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه!- أنه لم يعد يجوز لأحد بعد المصحف الإمام أن يستعمل تلك الرخصة السبعية القديمة؛ فأحرق ما كان في أيدي الناس من مصاحف، وأقره الصحابة على ما فعل. وبتأمل ما بقي من آثار تلك المصاحف يتبين أنها لا تخرج عن تلك الاختلافات السبعية التوسيعية التيسيرية، وأن الصحابي إنما كان عندئذ يَسْتَنُّ فيها لغيره بما استنه له رسول الله -صلى الله عيه، وسلم!- في تلك الأحوال القديمة.
ولقد بلغ من قبول رسم المصحف الإمام الذي انتدب له عثمان بن عفان -رضي الله عنه!- ومن أثره كذلك، أن صار شرطا في صحة القراءات القرآنية، ومِصْفاة تُصَفّى بها؛ فما وافقته نُظِرَ في سندها، فإذا صَحَّ سندها نُظِرَ في موافقتها للغة العربية، فإذا وافقتها كانت عندئذ قراءة صحيحة، هذا هو موضع الرسم الحقيقيُّ من مقاييس القراءة.
لقد كانت نسخ المصحف الإمام الأولى ستا، أرسلت إلى البصرة والكوفة والشام ومكة أربع، وبقيت في المدينة نسخة، واختص عثمان بن عفان بنسخة، وحُقَّ له، رضي الله عنه! واليوم يقوم بالمدينة المنورة نفسها على السُّنَّة نفسها، "مُجَمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف"، صرحا عظيما جليلا مهيبا مترامي الأرجاء منتشر الأرواح، لا تنقضي لرجاله في خدمة القرآن الكريم أعمال، ولا تفتر همم.