من بلاغة نَقد الشّعر: وَضعُ اليَد عَلى ما لَحَنَ فيه الشُّعراءُ وهُم لا يَشعرون :
1- لكلّ علمٍ أصولٌ وقَوانينُ مُتواضَعٌ عليها، يُبْنى عليْها ويُعتَصَمُ بها ويُرجعُ إليْها عند الاختلاف والخطإ. وإذا تكلّمَ المتكلّمُ قيسَ كلامُه بمقياسِ تلك القَوانينِ فإن وافَقَها فقَد وافَقَ الصّوابَ وإن خرجَ عليْها فقَد جانبَ الصّواب إلاّ ما كانَ من وُجوه معلَّلة بصحّة الضّرائر؛ فالمقاييسُ مُعوّلٌ عليها في الحِجاجِ والاستشهادِ، ولا يَكفي في سلامَةِ القولِ أن يُقالَ إذا صَفَت القَرائحُ وصحَّت الأذواقُ: حسُنَ الكلامُ وارتقى في مَراقي البَلاغَة والفَصاحَة والسّلامة.
ثمَّ لا يَكفي الأديبَ أن يَجتهدَ في لُزوم القَواعدِ ويدَّعيَ الإحاطةَ بالقَوانين حتّى ينجُوَ من آفةِ الشُّبهَةِ في القولِ ومُجانبَة الصّوابِ.
ولقَد حرّرَ عُلَماءُ القول البَليغِ والنُّقادُ الصّحائفَ في الكشف عن مَزالق النظم والتركيب واستخراجِ دقائق هفواتِ اللغة والنّحو ممّا لا يَكادُ يَتَراءى للنّاظر فيه شبهةٌ.
وكانَ لنقّاد الشّعرِ إسهامٌ كبير في تأصيل قواعدَ لنقد الشّعر، منهُم الأصمعيّ في فُحولَة الشّعراء، وابنُ سلاّم الجُمَحي (ت.231ه) في طَبَقات فُحول الشّعراء، والجاحظُ (ت.255ه) في البيان والتّبيين والحَيَوان، وابنُ قتيبَةَ في الشّعر والشّعراء (ت.276ه) وأبو العَبّاس المبرِّد (ت.285ه) في قَواعد الشّعر، وأبو العَبّاس ثَعلَب في قواعد الشّعر أيضاً، وابنُ المعتزّ (ت.296ه) في البَديع، وأبو هلال العَسكريّ في الصّناعتَيْن، وابنُ رشيق في العُمدة، وابنُ سنان الخَفاجيّ في سرّ الفَصاحَة، وقُدامَة بنُ جعفَر في نَقْد الشّعر (ت.327ه)...
وقسّموا العلمَ بالشّعر إلى علم بالعَروض والوزن والقَوافي والمقاطع، وعلم بالغَريب واللّغَة والنّحو، وعلم بمَعاني الشّعر وأغراضه وَمقاصد الشّعَراء، وعلم بالجيّد والرّديء.
وكانَ للغَة الشعرِ ومطابقَتها للقَواعد حُضورٌ كبيرٌ في نقد النقّاد؛ فَما من شعرٍ لا يَجري على سبيلِ الإعرابِ واللغةِ إلاّ ويَكونُ عُرضةً للحن ومظنّةً للخطأ.
2- من ذلكَ قولُه: « وإنّكَ لتَنظُرُ في البيتِ دَهراً طَويلاً، وتُفسّرُه ولا تَرى أنّ فيه شَيئاً لم تَعلَمْه. ثم يَبدو لكَ فيه أمرٌ خَفيٌّ لم تَكن قَد عَلِمتَه، مثالُ ذلكَ بيتُ المتنبي، [الكامل]:
عَجَباً له حَفِظَ العِنانَ بأنمُلٍ *** ما حِفْظُها الأشياءَ مِن عاداتِها
مَضى الدّهرُ الطويلُ ونحنُ نقرؤه، فلا نُنكِرُ منه شَيئاً، ولا يَقعُ لنا أنّ فيه خطأً، ثم بانَ بأخَرَةٍ أنّه قد أخطأ. وذلكَ أنه كانَ ينبغي أن يقولَ: ما حِفْظُ الأشياءِ مِن عاداتِها فيُضيفُ المصدرَ إلى المفعول، فَلا يَذكُر الفاعلَ، ذاك لأن المعنى على أنه يَنفي الحفظَ عن أنامِله جملةً، وأنه يَزعمُ أنه لا يكونُ منها أصلاً، وإضافَتُه الحفظَ إلى ضَميرها في قولِه: ما حِفْظُها الأشياءَ، يَقتضي أنْ يكونَ قد أثبتَ لها حفظاً. ونظيرُ هذا أنّكَ تقولُ: ليسَ الخُروجُ في مثلِ هذا الوَقتِ من عادَتي، ولا تقول: ليسَ خُروجي في مثلِ هذا الوَقتِ من عادَتي. وكذلك تقولُ: ليسَ ذَمُّ النّاس مِن شَأني، ولا تقولُ: ليسَ ذَمّي النّاسَ مِن شَأني. لأنّ ذلكَ يوجبُ إثباتَ الذّمّ ووُجودَه منكَ.
ولا يصحُّ قياسُ المصدرِ في هذا على الفعلِ، أعني لا يَنبغي أن يُظَنَّ أنّه كَما يجوزُ أن يُقالَ: ما مِنْ عادَتها أن تَحفَظ الأشياءَ، كذلكَ يَنبغي أنْ يَجوزَ: ما مِنْ عادَتها حِفْظُها الأشياءَ. ذاكَ أنّ إضافَةَ المصدرِ إلى الفاعلِ يَقتضي وُجودَه، وأنّه قد كانَ منه. يُبيّنُ ذلكَ أنّكَ تَقولُ: أمَرتُ زَيداً بأن يَخرجَ غَداً ولا تَقولُ: أمَرتُه بخُروجِه غَداً.» (1)
3- ومما أخطأ فيه الشعراءُ ما هو غايةٌ في الخفاء كقول المتنبّي، [البسيط]:
ولا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فتُشمِتَه *** شَكْوى الجَريحِ إلى الغِربانِ والرَّخَمِ
الشكوى مَفْعولٌ مطلقٌ أو نائبٌ عنه لاختلاف الصيغَة وإن اتّحد الأصلُ المعجميّ، والأصلُ أن يَقولَ: لا تَشكَّ تَشَكِّيَ الجَريح... أمّا وجه الخَلل في التّركيبِ أنّكَ « إذا قُلتَ: لا تَضْجَرْ ضَجَر زيدٍ، كُنتَ قد جعلتَ زيداً يَضْجَرُ ضَرباً مِن الضَّجَر مثل أنْ تجعَلَه يُفْرِطُ فيه أو يُسرعُ إليه. هذا هو موجِبُ العُرف. ثمّ إنْ لم تَعْتَبِرْ خُصوصَ وَصفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضَّجرَ على الجُملة من عادَتِه، وأن تجعلَه قد كانَ منه. وإذا كان كذلكَ اقتضى قولُه:
شَكْوى الجريحِ إلى الغِربان والرَّخَمِ
أن يكونَ هاهنا جَريحٌ قد عُرف من حالِه أن يكونَ له شَكوى إلى الغِرْبان والرخم، وذلك محالٌ. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا أن يقالَ: لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فإنّكَ إن فَعَلتَ كان مَثَلُ ذلكَ مَثَلَ أن تُصوِّرَ في وَهمك أنّ بَعيراً دَبِراً كَشَفَ عَن جُرحِه، ثمّ شَكاه إلى الغِرْبانِ والرَّخَم.» (2)
4- عُيوبُ اللفظ:
أحصى النّقادُ على الشُّعراءِ عُيوباً لفظيّةً؛ منها أن يأتيَ اللفظُ مَلحوناً وجارياً على غَير سَبيل الإعراب واللغة، وقَد اسْتقصى هذا الفَنَّ أصحابُ الصّناعَةِ النّحويّة، منها أن يَرتكبَ الشّاعرُ ما ليس يُستَعمَلُ إلاّ شاذاً، وذلكَ هو الحوشيُّ الذي مَدحَ عُمرُ بنُ الخطّاب زُهيراً بمُجانَبتِه له وتَنكُّبِه إيّاه، فَقال: كانَ لا يتتبعُ حوشيَّ الكلامَ.
وهذا الباب مُجَّوزٌ للقُدماء، ليس من أجل أنه حَسنٌ، لكن من شُعرائهِم مَن كانَ أعرابياً قد غَلبَت عليه العَجرفيّةُ، ومسَّت الحاجَةُ إلى الاسْتشهادِ بأشعارهِمْ في الغَريب، ولأنّ مَن كان يأتي منهُم بالحوشيِّ لم َيكُن يأتي به إلاّ على جِهة التّطلُّب والتّكلُّف لما يستعمله منه، لكن بعادَتِه وعلى سَجيّة لَفظِه. فأمّا أصْحابُ التّكلفِ لذلك، فهم يأتونَ منه بما يُنافِرُ الطّبعَ وينبو عنه السّمعُ...» (3)
5- وممّا خطّأ فيه النّقّاد واللّغويّونَ الشعراءَ مواضعُ الضّرائرِ الشّعريّة؛ فهذا أبو العبّاس المبرّد يردُّ على مَن يمنَعُ الاسمَ المنصرفَ من الصّرفِ:
وهذه قاعدةٌ لا يَكاد يختلف فيها النحويونَ؛ فللضَّرورَة وجْهٌ يجِبُ أَنْ تُخرَّجَ عليه، وإِلاّ عُدَّ الخروجُ خَرْقًا لا سَندَ لَهُ ولا مُسَوِّغَ. قالَ سيبَوَيْهِ: « ولَيْسَ شَيْءٌ يُضْطَرّونَ إِلَيْهِ إِلاَّ وهُمْ يُحاوِلونَ بِهِ وَجْهًا» (4) ، وقالَ السِّيرَافِيُّ مُفَصِّلاً: « وليْسَ في شيءٍ مِنْ ذلِكَ رَفْعُ مَنْصوبٍ، ولا نَصْبُ مَخفوضٍ، ولا لَفْظٌ يكونُ المتَكَلّمُ فيه لاحِنًا، ومَتى وُجِدَ هذا في شِعْرٍ كانَ ساقِطًا مُطَّرَحًا ولم يَدْخُلْ في بابِ الضَّرورَةِ»(5)، وقالَ الْمُبَرِّدُ: « «واعَلمْ أنّ الشّاعرَ إذا اضْطُرّ صَرَفَ ما لا يَنصرفُ. جازَ له ذلكَ؛ لأنّه إنّما يَردُّ الأسماءَ إلى أصولها. وإن اضْطُرّ إلى تَركِ صرفِ ما يَنصرفُ لم يجُزْ له ذلكَ؛ وذلكَ لأنّ الضّرورةَ لا تُجوِّزُ اللّحنَ، وإنّما يجوزُ فيها أن تردَّ الشّيءَ إلى ما كانَ له قبلَ دُخولِ العلّة، نحو قَولكَ في رادٍّ إذا اضطُرِرْتَ إليه: هذا رادِدٌ؛ لأنّه "فاعلٌ" في وَزن ضارِب، فلَحِقَه الإدْغامُ، كَما قالَ قعنب:
مَهلاً أَعاذلَ قد جربتِ من خلقي *** إني أجُود لأقوامٍ وإن ضَنِنُوا
لأن ضَنّ إنما هو ضَنِنَ، فلحقه الإدغام »(4) ، فضاعَفَ ما لا يجوزُ أن يُضاعَفَ في الكلام،
وكلُّ ضرورة ألجأت الشاعرَ إلى مخالَفَة أصل القاعدَة أدّت إلى لَحنٍ، من ذلكَ قولُ العبّاس بن مرداس السّلميّ:
فَما كانَ حصنٌ ولا حابسٌ *** يَفوقانِ مِرْداسَ في مَجْمَع
انتقَدَه المرزبانيّ (ت.384ه) في كتابه: الـمُوَشَّح في مآخذِ العُلَماء على الشّعراء، وقال: « وهذا قَبيحٌ لا يَجوزُ ولا يُقاسُ عليه لأنّه لَحنٌ(6).
وعابَ المرزبانيّ أيضاً على الفرزدَق قولَه:
فلو كانَ عبدُ الله مولىً هجوتُه *** ولكنَّ عبدَ الله مَوْلى مَواليا
فنصبَ الـمَوالي. وعابَ على الشاعر رفعَ المضارع المجزوم بلَم:
ألَم يأتيكَ والأنباءُ تَنمي *** بما لاقَت لَبونُ بنُ زياد
وحذفَ الشاعرُ الإعرابَ وليسَ بالحسن، أنشَدَه سيبويه:
فاليومَ أشْربْ غيرَ مُستحقِبٍ*** إثماً من الله ولا واغل (7)
وهكذا فَقَد انتقَد العُلماءُ ارتكابَ الشعراءِ عيوباً نحويةً وصرفيةً في التقديم والتأخير وتصغير ما لا يُصغَّر في الكَلام، ومضاعة ما لا يَجوز أن يُضاعَفَ...