يَرجعُ مصطلحُ التّصحيفُ في الأصلِ إلى الأخذِ عن الصُّحُفِ، دونَ التّلقّي من أفواهِ المَشايِخِ؛ قال أبو أحمدَ العسكريّ: « فأمّا معنى قولِهم "الصُّحُفيّ والتّصْحيف"، فقد قالَ الخليلُ: إنّ الصُّحفيَّ الذي يروي الخَطأَ عن قراءةِ الصُّحُفِ بأشباه الحُروفِ، وقال غيرُه: أصلُ هذا أنّ قوماً كانوا قد أخذوا العلمَ عن الصُّحفِ، من غيرِ أن يَلْقَوْا فيه العُلَماءَ، فكان يقعُ فيما يرْوونَه التّغييرُ، فيُقالُ عندَه: قد صَحّفوا، أي رَدّدوه عن الصُّحُفِ، وهم مُصحِّفون، والمصدَرُ التَّصْحيفُ » (1).

و قَدْ ألَّفَ العُلَماءُ في مَوْضوعِ "التَّصْحيفِ في الحَديثِ" (2)، وفَصَّلوا الحَديثَ في أنْواعِه المُخْتَلِفَةِ(3)، و مِنْهُم مَن خَصَّ ألْفاظَ الحَديثِ و ما يَعْتَريها مِنْ تَصْحيفٍ بِعِنايَةٍ لُغَوِيَّةٍ خاصَّةٍ؛ فَهذا أبو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ يُصَحِّحُ ألْفاظاً مِنَ الحَديثِ التي يَرْويها أكثرُ الرّواةِ والمُحدِّثينَ مَلْحونَةً ومُحَرَّفَةً و يُخْبِرُ بِصَوابِها، و فيها حُروفٌ تَحْتمِلُ وُجوهاً اخْتارَ مِنْها أبْيَنَها و أوْضَحَها (4).

و هذا الحاكِم النّيسابورِيّ يورِدُ أحاديثَ و يُنَبِّه عَلى ما وَقَعَ في مَتْنِها مِن تَصْحيفٍ قَدْ يُفْضي إلى عَدَمِ الاسْتِدْلالِ بالحَديثِ، كَما وَرَدَ في حَديثِ "إنَّ لله تِسْعَةً و تِسْعينَ اسْماً" (5) و فيه "الحَفيظ المُقيتُ"، و قدْ رَوى أبو زَكَرِيّا العَنْبَرِيّ عنْ أبي عَبْد الله البوشنْجيّ أنّ المَحْفوظَ مِن هذا الحَديثِ هُوَ "المُغيثُ"، و أنَّ مَنْ قالَ "المُقيت" فَقَدْ صَحَّفَ (6).

وهذا الحافِظُ أبو الحَجّاجِ المُزِّيّ يُعَلِّقُ عَلى حَديثٍ رَواه ابْنُ ماجَة مِنْ طَريقِ الأعْمَشِ عَنْ أبي صالِحٍ عَنْ أبي هُرَيرةَ وعَن أبي سُفْيان عَنْ جابِرٍ قالا: جاءَ سُليكٌ الغَطَفانيُّ ورَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقالَ لَه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم : أصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ "تَجيءَ"؟ قالَ لا، قالَ فَصَلِّ رَكْعَتَينِ وتَجَوَّزْ فيهِما (7) ، و يَقولُ المُزّيّ إنَّ الصَّوابَ: " أصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تَجْلِسَ؟ "، فَغَلطَ فيه النّاسِخُ، وأنَّ كِتابَ ابْنِ ماجَه تَداوَلَتْه شُيوخٌ لَمْ يَعْتَنوا بِه، بِخِلافِ صَحيحَي البُخارِيّ ومُسْلِمٍ؛ فإنّ الحُفّاظَ تَداوَلوهُما واعْتَنَوْا بِضَبْطِهِما وتَصْحيحِهِما، أمّا كِتابُ ابْنِ ماجَه فَقَدْ وَقَعَ فيه أغْلاطٌ وتَصْحيفٌ (8)؛ إذْ صَحَّفَه بَعْضُ الرُّواةِ (9). ولا شَكَّ في أنّ كَثيراً مِن الأحاديثِ التي وَقَعَ في بعضِ ألْفاظِها تَصْحيفٌ، أثَّرَ ذلِكَ في الأحْكامِ الفِقْهِيّةِ المُسْتَنْبَطَةِ، وعُمِلَ بِمُقْتَضى المَعْنى المُصَحَّفِ (10)، كَما وَقَعَ في الحَديثِ السّابِقِ: "أصَلَّيْتَ قَبْلَ أنْ تَجْلِسَ؟"، التي رُوِيَتْ: "أصَلَّيْتَ قَبْلَ أن تَجيءَ"، واسْتُخْرِجَ مِن المَعْنى المُصَحَّفِ مَعانٍ فِقْهِيّةٌ .

وهذا الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ يُعَلِّقُ عَلى رِوايةِ مُسْلِمٍ لحَديثِ السَّبْعَةِ الذينَ يُظِلُّهُم الله بِظلِّه، الذي أورَدَه في بابِ "فَضْل إخْفاءِ الصَّدَقَةِ"، فَقَدْ رَواه بِقَلْبِ جُزْءٍ مِنْه: "ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفاها حَتّى لا تَعْلَمَ يَمينُه ما تُنفقُ شِمالُه" (11) ، فَهُو حَديثٌ مَقْلوبٌ حُوِّلَ جُزْءٌ مِنْه عَنْ وَجْهِه، وقَدْ يُؤدّي القَلْبُ في مُتونِ الأحاديثِ إلى تَغْييرِ مَعاني النّصوصِ وتَحْريفِها عَنْ مَواضِعِها؛ قالَ ابْنُ حَجَرٍ في الحَديثِ عَنِ التَّصْحيفِ في المَتْنِ: «وقَد سَمّاه بَعضُ مَن تَقدَّم مَقلوباً؛ قالَ عياض : هكَذا في جَميعِ النُّسَخِ التي وَصَلتْ إلينا مِنْ صَحيحِ مُسْلِمٍ، وهو مَقلوبٌ ، و الصَّوابُ الأوّلُ و هو وَجهُ الكَلامِ ؛ لأنَّ السُّنّةَ المَعهودَةَ في الصّدقةِ إعْطاؤُها بِاليَمينِ، و قَد تَرجَم عَليه البُخاريّ في الزَّكاةِ : "باب الصَّدَقَة بِاليَمينِ" » (12).
وأوْرَدَ عُلَماءُ الحَديثِ أيْضاً أحاديثَ كَثيرَةً ، اعْتَراها التَّصْحيفُ في المَتْنِ، مِنْها ما ذَكَرَه ابْنُ الصَّلاحِ وابْنُ جَماعَةَ مِنْ نَماذِجَ في التَّصْحيفِ في المَتْنِ كَحَديثِ ثابِتِ بْنِ زَيْدٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «احْتَجَرَ في المَسْجِدِ بِخُصٍّ أو حَصيرٍ حُجْرَةً يُصَلّي فيها» ، فَقَدْ صَحَّفَه ابْنُ لهيعَةَ فَقالَ: احْتَجَمَ في المَسْجِدِ (13) ، فَصَحَّفَه لِكَوْنِه أخَذَه مِنْ كِتابٍ بِغيْرِ سَماعٍ (14).

وهكذا فإنّ الحِرْصَ عَلى روايةِ الحَديثِ النّبويّ الشّريفِ، بألفاظِه وحُروفِه، وانتباهَ العُلَماء إلى ذلكَ وتنبيهَهُم عليْه، لَمِمّا يَبْعَثُ الاطْمِئْنانَ عَلى سَلامَةِ لُغَتِه مِنْ كلِّ تَحْريفٍ أو زِيادةٍ أو نَقْصٍ أو إبْدالٍ للَفْظٍ بآخَرَ .
ولا شَكَّ، بعد ذلكَ، في أنّ سَبيلَ السَّلامَةِ مِنَ اللَّحْنِ و التَّحْريفِ و التَّصْحيفِ اشتراطُ المَعْرِفَة بالنَّحوِ واللّغةِ، والأخذِ مِنْ أفْواهِ أهلِ العِلمِ و الضَّبطِ (15) ، ومَنْ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ الخَطإ والصَّوابِ فَلَيْسَ بِأهْلٍ لأن يُؤْخَذَ عَنْه