مقاصد علم اللغة في الحضارة العربية الإسلامية دراسة استقرائية)، وهو كتاب ثقافي لو لم يتميز إلا بإهدائه لأستاذنا أ.د. سعد عبدالعزيز مصلوح وتقديمه للكتاب لكفاه شرفًا ورفعة، وتقديم أستاذنا قطعة فنية أحسن تخير ألفاظها كما أحسن وضع ما تتيحه إمكانات اللغة وأنظمتها من استعمالات يرتادها بما ملكه من اقتدار وتمكن من ناصية اللغة، وليس يشغلك جمال رصف العبارة ولا متانة السبك وما عليه من حلاوة وطلاوة؛ إذ هو يذكرك بصنيع الجاحظ في رسائله ويزوي بين أسطره من المعاني ما تنوء به الأسفار.
ويستوقفك هذا العنوان الطويل فإذا تصفحت الكتاب ونظرت في مداخله لم تجده في مقاصد علم اللغة إلا إن عمدت إلى توسيع الدلالة وقبلت الإضافة لأدنى ملابسة، فهذا الكتاب يتحدث عن مقاصد المؤلفين من تأليفهم كتب علوم اللغة وأحسب أنَّ بين الأمرين فرقًا.
وقد جعل المؤلف مقاصد المؤلفين همه وإن نسبها للعلوم؛ فأنت تراها متكررة متداخلة؛ لأنها مهما تعددت ليست تملأ سفرًا بهذا الطول، وهو أمر أقر به المؤلف واعتذر عنه؛ ولكن الشيء بالشيء يذكر، فكان سعي المؤلف إلى كتابة هذه المقاصد، وقد دعي إلى الكتابة فيها تلبية لرغبة صاحب دار المقاصد، سبيلًا إلى استعراض للثقافة اللغوية في الباب الثاني من الكتاب، وهو جمهرة الكتاب، حيث ضم خمسة فصول عن علم الصوتيات وعلم الصرف وعلم النحو وعلم الدلالة وعلم اللغة في كتب الطبقات.
والكتاب إذن يحقق ما قصد إليه مؤلفه من "الطموح نحو أن يكون كتابًا في المصادر اللغوية في ثوب مختلف عما أنجزه علماء هذا الباب المعرفي في العصر الحديث".
وختم المؤلف كتابه بمجموعة من النتائج وصفها بأنها شديدة الأهمية، بين فيها أثر القرآن الكريم في الانفجار المعرفي الذي أنتج الدرس اللساني، وأن علوم اللسان بينها شبكة معقدة من العلاقات كان يمكن أن تتفوق على منجز الحضارة الغربية المعاصرة، وأنه منجز متعدد الوظائف متنوع يعكس خصائص الإسلام على الأرض، وتعجب المؤلف من اتفاق مصادر اللغة في مقاصدها من حفظ للدين وحفظ للعقل وحفظ للنفس وحفظ للمال، وبيّن أنّ الكتاب كشف عن استغراق العقل العربي كل مجالات العمل العقلي، وذكر أن تطبيقات مقصد التيسير ظاهرة في علوم العربية بتنوع منهجي وتنوع تأليفي وإرادة جمع وتنظيم وإرادة استدراك وتكميل، وتعجب من سعي المنجز اللساني إلى خدمة مقصد السلام الاجتماعي، وأوضح تنبه الحضارة العربية إلى مخاطر التوقف عند المناهج الوصفية فتجاوزتها في وعي معجِب مشيرًا إلى أثر الأحكام الفقهية في السعي اللغوي إلى المعيارية، وأشاد بالوعي الملازم للمنجز اللساني بقضايا المعنى والدلالة، وأوضح أهمية الكتاب في تمييز اللسان العربي على غيره من الألسنة من حيث التنوع خلافًا لجمهرة اللسانيين المعاصرين، وذكر أن الكتاب فتح الباب لإعادة النظر في تقسيم فروع كل مستوى لغوي بما أنجزته العرب بمصادرها المتنوعة. وختم نتائجه بأنه من المفاجئ أن يكشف فحص المنجز اللساني عن تقدير ظاهر للتاريخ يمكن القول معه إن الحضارة العربية سبقت وعدّت تاريخ علم اللغة فرعًا من العلوم اللغوية.
جاء هذا الكتاب في لغة واضحة سليمة، ولست أشك أن القارئ سيحمد للمؤلف ما حمده له أستاذنا سعد مصلوح من صبر وأناة على جمع المتفرقات، وإنه واجد بلا شك من الخير والمتعة ما يستحق له المؤلف الشكر والثناء.