ليت الامر كان موقوفا على من جرى في حلـْـبة الادب ، بل تعداه الى المتلقي.. ذلك ان المرء حين يخرج الى الحياة الفكرية تتخطفه ، اسماء المفكرين من الكتاب والشعراء.. فتستهيمه ، وتذهب بهواه وعقله الى الاخذ عنهم ، والاقتداء بهم ، والسير في مناهجهم ، فاذا كان ذلك كذلك: فان كل من يعرض نتاجه العقلي للشبان ، ويكون في محل القدوة والتأسي والتأثر ، يحمل تبعة تكوين العقول الشابة التي تأثرت علمه وفكره ، ثم تستقل بها وبانتاجها الخاص.. ويكون هذا الانتاج نازعا بعرق ، وضاربا بنسب الى الاصل الاول الذي استمد منه ، وتلقى عنه.
ويومئذ ، لا يشكو الكتاب من بوار اسواقهم ، لانهم يعرضون للناس الحَسن الذي ينشئ في القلوب الاحساس بالحسن ، والرغبة في اختيار الأحسن ، ويتشوق الناس الجميل: لانه جميل يسمو ، بالروح في سبحات المثل الاعلى من الجمال الروحاني.. ومن ثم لا يجيزون الا الجميل.. وقد يضيف القارئ الى الاثر الفني معاني اخرى ، ويخلع عليه الوانا فوق ما اراده له صاحبه ، وهذه الاضافات تشعر القارئ بشدة الطرب التي ينشئها اعتقاده انه يخلق ، وعلى قدر ما يتضح الخلق في الاضافة تتضح العظمة في الكاتب.
أما بعد.. فهذا كلام لا بد منه ، ليسير الينا القارئ ونسير اليه في مهاد مذلل من الرأي والنصيحة.. على ان لا يمد منه بأوهامه مدا بعيدا ، حتى لا يخرج بما نكتبه عن المعنى الذي نريد الى خطرات وأوهام.. وليس علينا ان نوافق هوى قارئ لانه هواه ، بل علينا ان نجتهد له في إمحاض الرأي ليأخذ منه او يدع ، على قدر من اقتناعه او مخالفته.
ليس المراد بالبيان ـ هنا ـ الترجمة والعبارة عما في النفس والضمير لقضاء الحاجات واتصال مصالح الخلق ، لان الكشف عما في النفس ، يؤديه الكلام "من حيث هو لفظ مفيد مركب وضعا" ، والهيئة ، والاشارة المعهودة ، والعلامة ، وليس المراد به ايضا مطلق الكلام "اي: المنطق" ، لان هذا مما يستوي فيه الناس جميعا ، ولا يفضل بعضهم بعضا الا بما يكون من استواء النطق ، وسلامة مخارج الحروف ، والبراءة من اسباب العيّ والحـُـبسة ، لكن المراد بالبيان هو الاحسان في تأدية المعاني ، بحيث يكون اللفظ والمعنى - في آن جميعا - سابقين الى غرض ، متواطئين على معنى ، لا يجوران فيجاوزانه ، او يقعان دونه ، فالبيان كائن حي ، روحه المعنى ، وجسمه اللفظ ، فاذا فصلت بينهما.. اصبح الروح نفسا لا يتمثل ، والجسم جمادا لا يحس.
ومجالي الاحسان في اداء المعاني والفِكر كثيرة ، ومسالكها واسعة ، ولا يكاد يقف عليها الا من رزق دقة الحس ، ولطافة الروح ورحابة النفس ، والاهتزاز والطرب لمظاهر ، الابداع في هذا الكون. ثم ان هذه المواهب لا بد لها لكي تؤتي أكلها من طول الدربة ، والاكباب على الاساليب العالية الشريفة ، وادمان النظر في آثار الادباء ، من بديع الشعر وكريم النثر ، والفرار من خـِــلاط "اهل الكثافة" ، فان مجالسة الثقلاء حمى الروح.
ان كتاب زماننا من ازهد الناس في حسن البيان ، فقد اصبحت اساليب كثير منهم تسبح في فلك الفاظ مستهلكة ، وكلم فوارغ ، وجمل جُوْف ، تسود بها انهار الصحف وأعمدتها ، تروح وتجيء ، تتجاوزها عينك في وجل وعلى عجل ، لانك لا تجد فيها امتاعا ، ولا تحس معها أنسا ، الى ما تجده في بعضها من ثقل وغثاثة ، تكاد تطبق على القلب ، وتأخذ بمجرى النفس ، فضلا عن البلية النازلة ، وهي بلية الغموض ، وليس هو الغموض الذي يحرك النفس ، لتستخرج بجودة التأمل وقوة الخيال ، خبيء الكلام ، ومكفن المشاعر ، ولكنه الشطط الاسود الذي يكد العقل ، ويكون مجلبة للغم والكآبة ، ثم هذه التراكيب التي يستعملها بعض كتابنا، تظهر ثم تختفي ، ولا تعرف الثبات والاستقرار.
إن كثيرا مما يكتب الان لا عربية له الا رسم الحروف ، وصورة الابنية من الاسماء والافعال ، اما روح العربية ، ومسالكها الرحبة ، فلا تجدها في ما تقرأ وتسمع ، بل يغلب علي ظنك ان هؤلاء الذين يكتبون ادبا عربيا لم يمروا بالقرآن العظيم ولا بالبيان النبوي ، ولا بكلام العرب ، فان ثروتهم اللغوية محدودة ، وتصرفهم في فنون القول قصير الخطو ، ولذلك تأتي معانيهم هزيلة خفيفة ، "وضيق الالفاظ يستتبع ضيق المعاني" ، كما يقول الجـُـرجاني في "دلائل الاعجاز".
ثم.. إنما يحاجّك في العناية بالاسلوب ، من اضطر الى مزاولة الكتابة ، وهو مدفوع عن حوض البلاغة بوهن سليقته ، وجفاء طبعه ، فيقول: ان طبيعة العصر ، وسرعة ايقاع الحياة ، لا يدعان للكاتب وقتا لكي يحسن ويزين ويتأنق ، ويقول: ان لغتنا "العربية" هي لغة الخيل والليل والبيداء ، وان زمانها قد تصرم ومضى ، وان هذا عصر الانترنت ، وهذا منكر من القول وزور ، وذلك؛ ان حسن البيان قيمة جمالية ، والقيم الجمالية باقية ثابتة ، مركوزة في الطباع ، والفطر السوية تطرب للكلمة العذبة ، كما تطرب لسجع الحمائم ، والعبير الفواح ينعشك سواء ركبت حقّة ام طائرة.. واذا كان الانسان ولوعا بالجَمال يتملاه في الوجه ، ويسكن اليه في البيت ، ويهيم به في الطبيعة.. الخ ، فلماذا يكره ان يسمع الكلمات العذبة ، والفقر المنسقة ، والجمل الموزونة ، والاصوات المؤلفة؟ على ان لا يشوب ذلك تكلف واستكراه ، فان من الفن ان لا يظهر الفن ، كما يقول "شيشرون". وهذا فلوبير ، امام الصناعة في فرنسا ، قد اخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزم غيره ، فكان لا يكرر صوتا في كلمة ، ولا يعيد كلمة في صفحة ، وكانت اذنه هي الحكم الاعلى في صوغ الكلام ، فلا يسيغ منه الا ما حسن انسجامه ، وتعادلت اقسامه ، وتوازنت فقره. إن اسباب محنتنا فيما نكتب وفيما نقول.
واخيرا.. إن هذه العامية الادبية التي تقاسيها البلاغة الحديثة لا يمكن أن تكون مذهبا من مذاهب القول يقوى على الجدل ، ويثبت على النقد ، إنما هي ضرب من "الشيوعية الادبية" ، أش به "بالشيوعية الديالكتيكية" ، تصدر دوافعها الحقيقية عن مـَـوجــِـدَة الفاقد على الواجد ، وحقد العاجز على القادر ، وسخط الضعيف على القوي.