يبدو أنّ كثيراً من الناسِ مازالَ عندَهُم غموض واضطرابٌ في تصوّر مفهوم الإعجاز عند البلاغيّين، ويخلطونَ بينه وبينَ مفهوم الصّرْفَة، ولا حاجةَ إلى التّذكير بأنّ الإعجاز يُعبّرُ عن تَحدّي القرآن الكريمِ لبُلَغاءِ العربِ وفُصَحائهم أن يأتوا بمثلِه أو بشيء من مثلِه، وقد حاوَلوا محاولاتٍ كثيرةً ولكنّها باءَت بالفشلِ وأتوا بنماذجَ مُضحكةٍ زَعَموا بها أنّهم أتوا بشيء من مثلِه، فالذي لا يُميّزُ بين أسلوب القرآن وبلاغته ونظمه وامتناعه، وبين أساليب الكتّاب والبلاغيين لا يستطيع أن يَفهَمَ الإعجازَ في حقيقته، بل يتطاوَلُ على مُعجزةِ القرآن ويقولُ: لا توجد لغةٌ معجزة، بل يخلطُ بين معجزةِ القرآن الكريم وتَحدّيه وبينَ العَجزِ اللّغويّ، أي يخلط بين جنس اللغة وبين وضع خاصّ من الأوضاع البليغَة التي وُضِعَت في تلك اللّغة. فلا يتكلَّمَنَّ في العلمِ إلاّ مَن يُحسنُه أمّا مَن يجهَلُ أصولَ الشّيءِ فهو إذا تكلَّمَ فيه أتَى بالعَجَبِ.
فإن قالَ إنّ القولَ بالإعجاز وهمٌ وحَجرٌ على اللغة البشريّة وتنكّرٌ للبلاغة الجَديدَة، قلنا له: القول بالوهم والقول بتجاوز البلاغة الجديدة للبلاغة القديمة وغير ذلك يصدقُ على ما يصنعه البَشَر من أشياء لحاجتهم إليها في عصرهم، فإن هم ذَهبوا ذهبَت أشياؤهم واختُرِعَت أشياء جديدة أو أنظار جديدة أو وسائلُ وأدوات ومفاهيم جديدة... ولكنّ ذلِكَ كلّه لا يصدق على القرآن الكريم ببلاغته وأساليبه ونظمه لأنّه ليس من صنع الناس ولا من وضعهم ولا من وضع الأنبياء أنفسِهم، ومَن أنكر ذلِك ممّن يقول بتاريخانية النص القُرآني ومرحليته فهو مغرِّدٌ خارج السّربِ، بلا علمٍ، وهنا نقطة الانفصال واستحالَة الاتصال