عملية آيكي: عندما أنقذ النازي أدولف هتلر صديقه الزعيم الفاشي بينيتو موسيليني من قبضة العدالة
على عكس الوضع في ألمانيا، حيث حكم الزعيم النازي (هتلر) وحلفاءه الموثوقين البلد بقبضة من حديد، لم تكن إيطاليا خاضعة بأكملها لسلطة (موسوليني)، فكان لإيطاليا ملكٌ ومجلس قادران، إن أرادا ذلك حقاً، على إزاحة (موسوليني) من منصبه.
أدولف هيتلر وبينيتو موسوليني.
لم يكن عام 1943 عاماً جيداً بالنسبة للدكتاتور الإيطالي (بينيتو موسوليني). حيث تلاشت أحلامه الاستعمارية بامتلاك أفريقيا الشمالية بعد هزيمة نكراء، ودفعت قراراته الكارثية بإرسال جنوده إلى الجبهة الشرقية لقتال السوفيات إلى وقوع خسائر لا تُقدر، ومما زاد الطين بلة هو غزو الحلفاء لصقلية ووصولهم إلى الباب الخلفي لإيطاليا.
على عكس الوضع في ألمانيا، حيث حكم الزعيم النازي (هتلر) وحلفاءه الموثوقين البلد بقبضة من حديد، لم تكن إيطاليا خاضعة بأكملها لسلطة (موسوليني)، فكان لإيطاليا ملكٌ ومجلس قادران، إن أرادا ذلك حقاً، على إزاحة (موسوليني) من منصبه. لكن في يوليو من تلك السنة، بدأت سلطة (موسوليني) بالتدهور، ولم يعرف أحدٌ إلى متى سيصمد هذا الزعيم الفاشي.
في التاسع عشر من يوليو عام 1943، حلّقت قاذفات القنابل فوق العاصمة الإيطالية روما. لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض فيها المدينة للقصف، لكنها كانت حادثة مفصلية في بداية نهاية الدكتاتور. ألقت الطائرات بقنابلها على منطقة سان لورينزو العمالية، وسبب ضرراً هائلاً لمطارين في العاصمة روما، ودمّرت أجزاءاً من كاتدرائية سان لورينس خارج الأسوار. يبدو أن الشعب الإيطالي اكتفى بما حلّ به من مآسي الحرب.
انقلب أعضاء الحكومة الغاضبين على (موسوليني)، وصوّت المجلس الأعلى على حجب الثقة عن الزعيم الإيطالي في الرابع والعشرين من يوليو. في اليوم التالي، تم استدعاء (موسوليني) –أو ”الدوتشي“ كما كان يُلقب، والتي تعني ”القائد“ –إلى قصر الملك (فيكتور إيمانويل الثالث). ظنّ (موسوليني) أنه لقاء اعتيادي أسبوعي، لكنه فوجئ بما قاله الملك، حيث أخبره الأخير أنه سيتم استبداله بالمارشال (بيترو بادوليو)، حيث قال الملك: ”عزيزي القائد، لم يعد بقاؤك من مصلحة أحد. مُزقت إيطاليا إلى أجزاء، ولم يعد الجنود راغبين بالقتال. في هذه اللحظة، أنت أكثر رجل مكروهٍ في إيطاليا“.
غادر (موسوليني) القصر تتملكه حالة من الصدمة. حيث حكم إيطاليا منذ عام 1922، وهو الآن مطرودٌ من منصبه بعد أن خانه أعضاء حكومته. ولاحقاً، تم اعتقاله على يد أعضاء من الشرطة العسكرية الإيطالية (كارابينيري) وزج به في السجن بناءً على أوامر الملك.
عندما وصلت أخبار انهيار (موسوليني) إلى الزعيم النازي (هتلر)، ذُعر الأخير بحق من تلك الأنباء. فإذا كان التخلص من (موسوليني) سهلاً لهذه الدرجة، فما المصير الذي ينتظر (أدولف هتلر)؟
مهمة خطرة
أدولف هيتلر (من اليمين) وبينيتو موسوليني.
ذُعر (هتلر) من العواقب المحتملة لقيام تحالف بين الحلفاء وإيطاليا الجديدة بدون (موسوليني)، لذا قرر أن الحلّ الوحيد هو ضمّ الأراضي الإيطالية وما وراء البحار، وإنقاذ زميله الدكتاتور من السجن. لم يخف ذلك عن الإيطالين، حيث راودتهم فكرة غزو (هتلر) لإيطاليا في محاولة منه لإنقاذ (موسوليني)، لذا عمدت السلطات الإيطالية إلى ترحيل (موسوليني) من سجنٍ لآخر وبشكل مستمر حتى يضللوا الألمان ويخفوا مكانه عنهم. لكن (هتلر) توقع إجراءً كهذا، وأرسل قائد الهجوم الرئيسي، أو الـ (هاوبت شتورم فيورر) وهي الرتبة الألمانية، (أوتو سكورزيني) إلى إيطاليا لتقفي أثر الدكتاتور وتنفيذ عملية الإنقاذ. سُميت عملية إنقاذ (بينيتو موسوليني) بـ ”عملية آيكي“.
شهد (سكورزيني) الغزو الألماني للاتحاد السوفياتي عام 1941، وبعد تعرضه لإصابة خلف الرأس جراء شظايا قنبلة عام 1942 (حيث حصل على وسام الصليب الحديدي)، تم تعيينه في وظائف إدارية في برلين، حيث بدأ يطوّر تقنيات حرب الكوماندوس.
لم يستغرق (سكورزيني) الكثير من الوقت حتى عثر على مكان الديكتاتور الإيطالي، حيث اعترض أرسال الراديو، وحصل على معلومات تفيد بموقع احتجاز (موسوليني) في فندق كامبو، وأنه تحت الحراسة المشددة. وفندق كامبو هو منتجع شتوي في جبال أبنين في إقليم غران ساسو ضمن الجزء الجنوبي من إيطاليا. لذا أصبحت المشكلة الآن تتمثل في كيفية إنقاذ (موسوليني) ضمن هكذا مكان.
كشفت صور الاستطلاع الجوي عن موقع الفندق بشكل دقيق، حيث تبيّن أن موقع الفندق فوق الجبل يستبعد إمكانية إنزال الجنود بالمظلات. لكن الصور كشفت وجود قطعة صغيرة من الأرض قريبة من الفندق، فارتأى (سكورزيني) أنها مناسبة لإنزال سرية من الجنود.
في صباح الثاني عشر من سبتمبر عام 1943، قام (سكورزيني) وفريقٌ من كوماندوس الـ SS وجنود المظلات بركوب 10 طائرات شراعية من نوع DFS 230، وانطلقوا من مدرج طائرات قرب روما ليصلوا إلى الفندق. وعندما وصلوا إلى موقع الهبوط، لاحظ (سكورزيني) أن قطعة الأرض التي أراد الهبوط عليها هي جرف منحدر مليء بالصخور، وليس أرضاً منبسطة كما أظهرت الصور الجوية. لذا لم يملك الجنود خياراً سوى الهبوط بشكل اضطراري على المنحدر، فتسبب ذلك بإصابة البعض بالجروح.
في تلك الأثناء، استولت كتيبتان تابعتان للقائد العام (هارالد مورس) على السكة الحديدية المعلقة، والتي كانت تُستخدم لنقل السياح إلى الفندق. أمر (مورس) بقطع جميع الاتصال التلفونية، وقطع جميع أشكال الاتصال مع العالم الخارجي.
اجتاح (سكورزيني) وجنوده الفندق، لكن الفندق كان يعج بقوات الكارابينيري الإيطالية، والذين قُدر عددهم بـ 200 عنصر. لذا وضع (سكورزيني) مسبقاً خطة تجعل جميع هؤلاء المسلحين الإيطاليين يستسلمون. حيث جلب معه جنرالاً إيطالياً اسمه (فرناندو سوليتي). وعندما اجتاح (سكورزيني) الفندق، أمر (سوليتي) القوات الإيطالية بعدم إطلاق النار. وهكذا ارتبك الإيطاليون وألقوا بأسلحتهم.
حطّم الألمان راديو الحرس كي لا يقوموا بطلب المساندة، وهرع (سكورزيني) إلى الطوابق العليا بحثاً عن غرفة (موسوليني). وعندما وجده، قال باكياً: ”الدوتشي، أرسلني الفيورر! أنت حر!“. فردّ (موسوليني): ”كنت أعلم أن صديقي (أدولف) لن يهجرني“.
في ذلك الوقت، كان (مورس) قد وصل إلى الجبل ودخل الفندق. رحّب بـ (موسوليني) وعرّف عن نفسه، بينما طلب (سكورزيني) طائرة خاصة لنقل الدكتاتور.
كلارا بيتاشي، عشيقة الدكتاتور الإيطالي موسوليني.صورة: Getty
حطّت الطائرة على المنحدر الصخري، وتمت مرافقة الدكتاتور الإيطالي حتى وصل إلى الطائرة، والتي صُممت كي تتسع لشخصين على الأكثر، لكن (سكورزيني) أصر على مرافقة الدكتاتور، مما زاد الحمولة على الطائرة.
لماذا قد يقوم (سكورزيني) بهكذا تصرف، والمخاطرة بإفشال المهمة في اللحظات الأخيرة وزيادة الحمل على الطائرة؟ حسناً، الجواب بسيطٌ للغاية: فإذا وقع أي مكروه لـ (موسوليني) أثناء هربه من إيطاليا، سيتحمل (سكورزيني) مسؤولية هذا الحدث. حيث طلب (هتلر) إعدام (سكورزيني) إذا وقع شيء لـ (موسوليني) أو فُقد أثناء العملية.
استطاعت الطائرة التحليق في الهواء، واستطاع الطيار تجنب الكوارث التي كان من الممكن أن تقع. شق (موسوليني) طريقه إلى روما، بينما جهّزت فرقة الإنقاذ نفسها للعودة إلى الحدود الصديقة سيراً على الأقدام. حققت عملية (آيكي) نجاحاً تاماً بدون إطلاق رصاصة واحدة!
صُعق (هتلر) برؤية صديقه القديم في الرابع عشر من شهر سبتمبر في مخبأه السري في الغابات خارج بلدة (راستنبرغ). كان مظهر (موسوليني) مثيراً للشفقة، حيث خسر مقداراً ملحوظاً من وزنه منذ آخر مرة التقى فيها مع الزعيم الألماني. لكن ما يهم الآن أنه بخير وأمان.
تبيّن لاحقاً أن عملية الإنقاذ ليست إلا انتصاراً أجوفاً بالنسبة لـ (موسوليني). فمن الأساس، كان (موسوليني) مجرد لعبة بيد (هتلر)، عيّنه الزعيم النازي كي يسيطر على جمهورية إيطاليا الاشتراكية. حتى أن (موسوليني) اعترف بذات نفسه أنه أصبح واحداً من أتباع (هتلر). في مقابلة مع (ماديليني مويلر)، زوجة ملحق صحفي في سفارة، أجرت سابقاً مقابلة مع الدكتاتور الإيطالي في أيام مجده عام 1938، اعترف (موسوليني) في مقابلته الأخيرة مع (مويلر) أن النهاية باتت قريبة.
حيث قال (موسوليني) لـ (مويلر): ”منذ 7 أعوام، كنت شخصاً مثيراً للاهتمام. أما الآن، فأنا مجرد جثة. نعم سيدتي، لقد انتهيت، نجمي انطفأ. لست قادراً على خوض حرب جديدة. أنا أعمل وأحاول، لكنني أعلم أن كل ما أفعله سيذهب سدى… أنتظر نهاية هذه التراجيديا، انفصلت عن كلّ شيء بطريقة غريبة، ولا أشعر أنني ممثل وإنما آخر شخصٍ في الحضور“.
عندما جاءت النهاية، كانت سريعة بالفعل. فقد شقّ الحلفاء طريقهم إلى شمال إيطاليا، وحاول (موسوليني) وعشيقته (كلاري بيتاشي) الهرب إلى سويسرا المحايدة. لكن في السابع والعشرين من أبريل عام 1945، ألقى الإيطاليون القبض على الرجل وعشيقته قرب قرية (دونغو) على شواطئ بحيرة كومو. في الصباح التالي، أُعدم (بينيتو موسوليني)، ”الدوتشي“، رمياً بالرصاص، وعلّقت جثته –إلى جانب جثة عشيقته وعددٍ من مناصريه ورجاله –على سطح محطة بترول في مدينة ميلانو.
كانت نهاية الزعيم الإيطالي، الذي حكم البلد لأكثر من 20 عاماً، مهينة بحق. لكن عددٌ قليل من الإيطاليين يحزن لوفاة هذا الدكتاتور، فجرائمه تجاه شعبه وبقية شعوب العالم لا يمكن أن تُمحى. وهكذا، نال الزعيم الفاشستي نهاية تليق بماضيه.
المصدر: موقع History