ما هي المدينة التى أوقفت زحف المغول لعامين من الزمان؟ ومن هو حفيد صلاح الدين الذى تحالف مع المغول وخان المسلمين؟
بعد أن طغى عالمنا الإسلامي سيول من مغول، وعقب إسقاطهم لبغداد حاضرة الخلافة، وقتل غالبية أهلها، كان على هولاكوخان اجتياح الشام، وأسرع ملوك المسلمين الأذلاء بإعلان الطاعة والتسليم، ولكن كان هناك بطل فى مستنقع الأذلاء، فما قصة دعوته الناس للجهاد؟ وما هي صور بطولة مدينته الأبية للذل والهوان؟
انتهت قصة بغداد المؤلمة ، وخرج المغول بعد أربعين يومًا من القتل فى الأهالى المسلمة ، فتركوها خاوية على عروشها ، وكأنها لم تكن عامرة بالأمس القريب ، أما هولاكو فقد وضع الكنوز الهائلة التى نهبها من قصور العباسيين ومن بيت مال المسلمين فى قلعة حصينة ببلاد فارس ، ثم بدأ يفكر فى الخطوة التالية ، وكانت – بلا شك – اجتياح ممالك الشام.
ولكن برزت أمام طاغية المغول مشكلة بارزة ، وتلك المشكلة تمثلت فى عظيم من عظماء المسلمين ، وبطل من أبطال الإسلام ، الذى رفض أن يكون مطية لأعداء الدين ، وأبى أن يكون فى مستنقع الأذلاء ، تعالوا لنروى بشيء من التفصيل عما حدث مع ذلك البطل الذى كان شوكة فى حلوق المغول.
سباق الخيانة:
رغم أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا فى بغداد لم تجف بعد ، بدأ بعض أمراء المسلمين يؤكدون على ولائهم للمغول ، وبدأت الوفود الإسلامية تتسابق لعقد الأحلاف مع ملك الغاب الجديد (هولاكوخان) ، ولم يجد هؤلاء الأمراء أي غضاضة فى التحالف مع هولاكو ، فكانوا يظهرون أمام شعوبهم بمظهر الحكماء الذين جنبوا شعوبهم ويلات الحروب ، وكان من أبرز هؤلاء أمير الموصل ، وأمراء الأناضول (تركيا حاليًا) ، وأمير حمص ، وأمير حلب ودمشق الناصر يوسف (حفيد صلاح الدين الأيوبي!!) ويعتبر أقوى حكام المنطقة.
وبذلك فتحت بلاد الشام وآسيا الصغرى وشمال العراق أبوابها لهولاكو دون أن يتكلف قتالاً!! ، وتيقن هولاكو أن ليس أمامه إلا غثاء كغثاء السيل يوشك أن يزول ، ولكن برز من ذلك الغثاء من الأفق طوفان من الأمواج العاتية.
بطل فى مستنقع الأقزام:
لقد رفض أحد الأبطال الأيوبيين الخضوع لهولاكو ، وعقد عزمه على أن يجاهد المغول إلى آخر رمق فى حياته ، وقرر الاحتفاظ بمروءته وكرامته ودينه ، ذلك هو أمير مدينة (ميافارقين) الأمير الكامل محمد الأيوبي.
كانت إمارة ميافارقين فى الجزيرة الفراتية بمثابة السور القوي الذى يفصل بين أملاك المغول وبلاد الشام وأمرائها الخانعة ، فصار إخضاع ميافارقين لزامًا على هولاكو ؛ لتكون جيوشه فى مأمن ، إضافة إلى مناعة ميافارقين وحصانتها و وقوعها بين سلسلة من الجبال.
جزيرة مؤمنة فى بحر المنافقين:
بدأ هولاكو فى إرهاب الكامل محمد الأيوبي وإقناعه بالإستسلام والدخول فى ما دخل فيه غيره من أمراء المسلمين ، فما كان من الكامل محمد إلا أن قتل رسول هولاكو النصراني ، و رغم عدم جواز ذلك فى الدين الإسلامي ، إلا أن قتل الكامل لرسول هولاكو كان إعلان حرب على هولاكو ، وشفاء لصدور المسلمين ، وانتقامًا لذبح مليون مسلم فى بغداد ذبح النعاج ، إضافة إلى أن المغول لم يحترموا عهدًا فى حياتهم.
لقد كانت إمارة ميافارقين كالجزيرة الأبية فى بحر من الأذلاء ، فمن الشرق كانت إمارة أرمينية النصرانية المتعاونة من المغول ، ومن الشمال الشرقي كانت إمارة الكرج المتعاونة مع المغول أيضًا ، ومن الجنوب الشرقي كانت إمارة الموصل وأميرها ( بدر الدين لؤلؤ ) الخاضعة للمغول ، ومن الغرب إمارات السلاجقة الخاضعة للمغول أيضًا وأبرز أمرائها ( قلج أرسلان الرابع ) و ( كيكاوس الثانى ) ، أما من الجنوب الغربي فكانت إمارة الناصر يوسف حفيد صلاح الدين الذى لا يستحق ذلك النسب وكان أكثر الأمراء المسلمين عمالة وحماسة للتعاون مع المغول.
حصار ميافارقين:
كان عدم خضوع الكامل محمد الأيوبي للمغول أول صحوة عاشها العالم الإسلامي منذ أن وطئت أراضيه جيوشالمغول ، فجهز هولاكو جيشًا كثيفًا و ولى قيادته ابنه (أشموط) ، فتوجه الجيش إلى ميافارقين عبر أراضى الموصل التى خضع أميرها الخائن ( بدر الدين لؤلؤ ) للمغول.
كان الكامل محمد الأيوبي قد جمع جيشه كله فى حصن المدينة ، فتوجه إليه جيش المغول الذى انضمت إليه جيوش مملكتي الكرج وأرمينية النصرانيتين ، وبدأ حصار ميافارقين الشرس بعد تدمير بغداد بأربعة أشهر فقط.
وصمدت المدينة الباسلة ، وأظهرت مقاومة ضارية ، وقد قام الأمير الكامل محمد يشجع شعبه على الثبات والجهاد فى شجاعة نادرة.
كرام فى زمن اللئام:
ضرب المغول الحصار على ميافارقين ، وكان من المرتقب أن يأتيها مدد من الإمارات الإسلامية المجاورة والملاصقة لها تمامًا ، ولكن الذى حدث أن احترم الأمراء المسلمون عهودهم مع المغول الذين فرضوها على إخوانهم المسلمين ، ومنعوا من يملك ذرة رجولة من شعوبهم من تسريب بعض الميرة والأسلحة إلى ميافارقين.
وموقف الناصر يوسف من الكامل محمد الأيوبي لا يستطيع أن يفهمه عاقل بسهولة ، فالرجلان تربط بينهما علاقات الدم والرحم إذ أن كلاهما من الأيوبيين ، وتربط بينهما علاقات الجوار والبعد الإستراتيجي ، إذ كان من المُدْرك أن هولاكو سيجتاح الشام كلها ، وفوق ذلك وذاك علاقةُ الدين والإسلام والعقيدة.
ذلك ولم يمر على وفاة صلاح الدين الأيوبي سبعون عامًا ، فكيف يكون حفيدُه على تلك الصورة المخزية؟ ولكن لَرُبما فسرت مواقف بعض حكام المسلمين اليوم ما فعله حكامهم بالأمس ، وما أشبه اليوم بالبارحة!!
سقوط ميافارقين:
بعد حصار بشع دام عامين من الزمان ، سقطت مدينة ميافارقين الباسلة تحت أقدام المغول ، بعد شهور متصلة من النضال والكفاح والجهاد ، دون تحرك لنخوة أمير من الأمراء ، أو ملك من الملوك.
وكعادة المغول استبيحت حرمات ميافارقين ، فقُتل كل سكانها ، وحرقت ديارها ، ودمرت مبانيها ، وأرسل الكامل محمد إلى هولاكو ليزيد من عذابه ، فقيده ذلك الطاغية ، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي ، وأجبره على الأكل من لحمه ، وظل الكامل محمد يعانى ذلك العذيب البشع ، إلى أن أذن رب العباد للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها.
كان الأمير الكامل بمثابة شمعة مضيئة فى عالم من الظلام ، فقطع هولاكو رأسه ، وأمر أن يطاف رأسه فى كل بلاد الشام ، ثم عُلقت على أحد أبواب دمشق ، حتى استرجعها سيف الدين قطز ، ودفنت فى مسجد عرف بمسجد الرأس.
جزاء العملاء:
كان مصير كل من خذل ميافارقين شديدًا سيئًا ، فأما الناصر الأيوبي فأرسل إليه هولاكو أثناء حصار ميافارقين رسالة شديدة اللهجة يطلب حضوره مباشرة ، فارتعدت فرائس الناصر ، وسقط قلبه فى قدميه ، ولم يجد مفرًا من إعلان الجهاد ، ولكنه جهاد من يتشبث بالحياة لا جهاد من يستعد للموت لإعلاء كلمة الله ، ومن ثم اجتاح المغول حلب الشهباء ، ثم دمشق حاضرة الأمويين ودرة الشام ، وظل الناصر يوسف هائمًا على وجهه حتى أمسك به المغول ، وقد قتله هولاكو عقب هزيمة المغول فى عين جالوت.
وأما أمراء الأناضول السلاجقة ، فقد أجبرهم هولاكو على تسليم كل ما فتحه المسلمون من بلاد شرقي الأناضول إلى مملكة أرمينية التى ساعدت هولاكو فى إسقاط ميافارقين وحلب ، ولعل ذلك كان سيكون عقابًا تافهًا لهم ، إذ أنهم لم يبذلوا جهدًا فى فتح تلك البلاد ، ولا تعنيهم الدماء التى أريقت لتبليغ رسالة الله ، ولكن تنازع أولئك الأغبياء على السلطة ، فتدخل المغول ضد أحدهم ونفوه من البلاد حتى مات فى منفاه ، وأما الآخر ، فقد قتله أحد مساعديه.
وبذلك نال الأمير الكامل محمد الأيوبي جزاءه بأن نال مرتبة العليين والنبيين والشهداء – بإذن الله – ، ونال من خذلوه جزاءهم أيضًا بحصولهم على مكان غير صغير فى نفايات التاريخ.