كيف اجتاح المغول بلاد الشام؟ ولماذا عجز حكام الشام عن الصمود؟
بعد اجتياح ميافارقين وقتل البطل الكامل محمد الأيوبي ، بدأ هولاكو فى اجتياح بلاد الشام ، فلماذا لم يستطع حكام الشام أن يصمدوا أمام المغول؟ ولماذا ترك هولاكو جيوشه فجأة و رحل إلى بلاد فارس؟
فى أثناء حصار ميافارقين ، توالت الوفود الإسلامية تؤكد ولاءها وتبعيتها لهولاكو ، فولى ميممًا وجهه نحو بلاد الشام ، وبدا يفكر فى اجتياحها ، وأراد ضم تلك الإمارات الإسلامية المتناحرة تحت سلطانه ، كما أراد ضم الإمارات الصليبية فى ظل تبعيته ، تعالوا لنتناول بشيء من التفصيل ما فعله المغول لاجتياح الشام ، وكيف وعد المغول بتفريق أراضى المسلمين بين الممالك الصليبية ، فكان وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
* الناصر يوسف يعلن الجهاد!!:
من تلك الوفود التى بعثها أمراء المسلمين فى الشام إلى هولاكو لتأكيد الولاء والتبعية ، وفد (الناصر يوسف الأيوبي) أمير دمشق وحلب ، وقد كان يطلب مساعدة المغول لغزو مصر وضمها إلى ملكه ، وقد كان على رأس وفد الناصر ابنه العزيز ، ولكن على نفسها جنت براقش!!
لقد استكبر هولاكو أن يرسل له الناصر ابنه ولا يأتي بنفسه ، وغضب أيضًا من إرادة الناصر الإستيلاء على مصر وضمها لنفسه ، وهولاكو يريد الشام ومصر معًا أن يدخلا فى حكمه ، فأرسل هولاكو رسالة شديدة اللهجة إلى الناصر يوسف ، أما العزيز بن الناصر فقد احتجزه المغول عندهم ، أو لعله آثر البقاء مع جيش هولاكو لمهاجمة المسلمين!!
وسقط قلب الناصر يوسف فى قدميه ، و وجد أن لا مناص من الجهاد ولا مفر من محاربة المغول ، ولكنه كان جهادًا فى سبيل العرش والحكم لا سبيل الله والإسلام ، وضرب الناصر معسكر جيشه شمال دمشق ، مع أنه كان يجب عليه أن يعسكر بجيشه فى حلب لحمايتها ، أو يسير بجيشه نحو مدينة ميافارقين التى كان يحاصرها المغول ، وفى داخلها الأمير الكامل محمد الأيوبي ، وبذا تكون فرصة النصر أكبر ، ولكنه آثر البقاء فى دمشق ، حتى تكون فرصة الفرار أكبر لا النصر.
* سقوط حلب بأيدى المغول:
بدأت جيوش المغول الجرارة تتحرك صوب حلب ، فاحتلت نصيبين وحران والرها وإلبيرة ، ثم أطبقت على حلب الشهباء من كل الجهات ، وقد كان فيها مجاهد كبير تزعم المقاومة ، وهو توران شاه عم الناصر يوسف ، ولكنه لم يكن على شاكلته ، ونُصبت المجانيق حول المدينة ، وبدأ القصف المتوالى من المغول على المدينة ، أما الناصر يوسف ، فقد كان رابضًا بجيشه فى دمشق!!
وفى أثناء حصار حلب سقطت مدينة ميافارقين الباسلة بأيدى المغول ، واستشهد بطلها الكامل محمد الأيوبي ، فزادت حماسة المغول ، وخارت قوى المسلمين ، واستمر الحصار لمدينة حلب سبعة أيام فقط ، ثم أعطى هولاكو الأمان لأهل حلب إذا فتحوا الأبواب ، ولكن توران شاه حذرهم من مغبة ذلك الأمر ، وذكرهم بمخالفة المغول لوعودهم دائمًا ، غير أن أهل المدينة كانوا قد أحبطوا تمامًا من سقوط ميافارقين وما حدث بها من فظائع ، إضافة إلى تخلى الناصر يوسف عنهم ، وقد اتجه عامة أهل المدينة إلى فتح الأبواب أمام جيوش هولاكو.
اعتصم توران شاه بالمجاهدين فى قلعة المدينة ، وما أن فُتحت أبواب حلب ، حتى أصدر هولاكو أمره بقتل كل المسلمين وترك النصارى ، وتلك خيانة متوقعة من ذلك السفاح ، فبدأت المذابح البشعة فى الرجال والنساء والأطفال ، وتم تدمير المدينة تمامًا ، ثم اتجه هولاكو لحصار القلعة ، التى كان بها توران شاه والمجاهدون.
اشتد القصف على قلعة حلب ، وانهمرت السهام من كل مكان ، ولكنها صمدت وقاومت أربعة أسابيع متصلة ، إلى أن سقطت فى يد هولاكو ، وقتل هولاكو كل من فى القلعة ، إلا أنه لم يقتل توران شاه وأبقاه على قيد الحياة ، ليس لأنه يتحلى بنبل أو فروسية ، فذلك ليس إلا مجرم سفاح نزع الله من قلبه الرحمة ، ولكنه حتى لا يثير حفيظة الأيوبيين ، ويجعلهم يستسلمون دون مقاومة.
* ما بعد حلب:
استقر الوضع لهولاكو فى حلب ، فأعطاها هولاكو إلى أمير حمص (الأشرف الأيوبي) الذى كان مواليًا له مع حامية مغولية ، ثم اتجه هولاكو إلى حصن (حارم) ، وقد كان به بعض المجاهدين الذين رفضوا الاستسلام ، فاقتحم عليهم الحصن ، وقتل كل من فيه.
ثم أكمل طريقه غربًا بعد ذلك حتى وصل إمارة أنطاكية ، وهي إمارة حليفه الصليبي (بوهيموند) ، وقد وفد الحلفاء على هولاكو لتقديم الولاء والطاعة ، فجاء ملك أرمينية وأمراء السلاجقة (كيكاوس الثانى) و (قلج أرسلان الرابع).
وقد أصدر هولاكو أوامره بإعطاء اللاذقية إلى الصليبيين ، وقد كانت مسلمة منذ عهد صلاح الدين الأيوبي ، كما أعطى غنائم حلب إلى ملك أرمينية ، وكذلك كل الأراضى التى فتحها المسلمون السلاجقة من بلاد أرمينية.
ثم توجه هولاكو جنوبًا نحو مدينة (حماة) ، فجاءه وفد من أعيانها يقدمون له مفاتيح المدينة دون قتال ، ومن ثم أعطاهم هولاكو الأمان ، ولكنه كان أمانًا حقيقيًا ؛ لتشجيع غيرهم أن يحذوا حذوهم ، ثم توجه هولاكو نحو دمشق.
* بطل وسط الجبناء:
كان الناصر يوسف يعسكر بجيشه خارج دمشق ، وقد وافته الأنباء بسقوط ميافارقين واستشهاد الكامل محمد الأيوبي ، ثم جاءت الأخبار بسقوط حلب واستباحتها ، وكذلك سقوط حصن حارم وتسليم حماة ، فاجتمع الناصر بكبار قادته لمناقشة موقفه.
كان المجلس يضم الأمير البطل ركن الدين بيبرس – أحد فرسان المماليك – ، وكانت بوادر الرعب والهلع بارزة على قسمات وجه الناصر ، وبدا أنه هو وأمراؤه لا يميلون مطلقًا إلى الحرب واللقاء ، فبدأوا يتخاذلون ، وهنا انتفض الأمير ركن الدين بيبرس ، وكانت فيه رغبة جارفة فى مواجهة المغول ، لكنه وجد نفسه فى مجموعة من المتخاذلين والخونة.
لم تجد كلمات ركن الدين أي صدى عند أولئك الأمراء ، وقد اتخذوا قرار الفرار ، ولتبق دمشق وأهلها دون حماية!! ، أما الأمير بيبرس ، فقد توجه إلى مصر على أمل اللقاء مع المغول.
وقع أهل دمشق فى حيرة كبيرة ، فاجتمع أعيان دمشق وكبراؤها ، واتفقوا على تسليم المدينة إلى هولاكو ، ولم يخالف ذلك الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصن فى قلعة دمشق والدفاع حتى النهاية ، ولكن حدث أمر لم يكن فى الحسبان ، فقد انسحب هولاكو فجأة بفرقة من جيشه ، وتوجه نحو عاصمة بلاده (قراقورم)!!.
* موت منكوخان:
حدث أمر لم يكن فى حسبان هولاكو ، فقد مات منكوخان حاكم المغول ، وهولاكو – بالطبع – سيكون أحد المرشحين لحكم دولة المغول ، لذلك عندما وصل خبر وفاة منكوخان ، لم يتردد هولاكو فى ترك جيشه ، وأسرع بالعودة إلى قراقورم ، وترك على رأس جيشه أعظم قواده (كتبغا نوين).
لما وصل هولاكو إلى بلاد فارس ، جاءته الرسل بأنه قد تم اختيار أخيه الكبير (قوبيلاي) خاقانًا جديدًا للمغول ، ومع أن الأمر كان على خلاف مع توقعات هولاكو ، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء ، وذهب إلى تبريز (فى إيران) وجعلها مركزًا لحكمه.
* تسليم دمشق:
وصل أعيان المدينة وهم يحملون مفاتيحها إلى جيش المغول ، فاستقبلهم كتبغا ، وأعطاهم الأمان ، وتقدم بجيشه لدخول درة الشام وحاضرة الأمويين دمشق ، فدخل ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم ، ويسيحون فى طرق المدينة المسلمة ، وهم كتبغا نوين قائد جيش المغول ، وملك أرمينية ، وأمير أنطاكية.
وأعطى المغول الأمان فعلاً لأهل دمشق ، ما عدا الذين تحصنوا فى القلعة ، فقد أسقطوها ، وقتلوا كل من فيها ، وذلك بعد عامين فقط من سقوط بغداد ، ومن ثم هبطت معنويات العالم الإسلامي إلى الحضيض ، وصار غالبية المسلمين يوقنون باستحالة هزيمة المغول ، كما صار بعضهم يدرك أن اللحظات المتبقية فى عمر أمة الإسلام أصبحت قليلة جدًا.
* احتلال فلسطين:
قرر كتبغا احتلال فلسطين ، فاحتلت جيوشه سائر مدنها ، ما عدا الإمارات الصليبية ، ولكن الأمراء الصليبيين كانوا يتوجسون خيفة من المغول ، فقد أوغرت صدورهم تلك الأعمال التى قام بها المغول بحق النصارى من تعيين بطريرك مخالف لمذهبهم ، وتدمير مدينة صيدا وبيروت الواقعتين تحت قبضة الصليبيين ، كما أن أوضاعهم كانت مستقرة قبل قدوم المغول لاطمئنانهم بضعف المسلمين ، وكانوا على وجل أن يفعل المغول بهم ما فعلوه فى أوروبا بمجرد أن تترسخ أقدامهم فى الشام ، ولكن الصليبيين ظلوا يراقبون الأمر من بعيد دون تدخل.
باحتلال المغول لمدينة غزة ، صاروا على حافة شبه جزيرة سيناء ، وبات واضحًا للجميع أن الخطوة التالية – بلا شك – هي مصر ، وقد كانت آخر قوة ما زالت قائمة فى مركز العالم الإسلامي ، إذ سقطت دولة الموحدين فى المغرب الأقصى وتفتت قبيل احتلال الشام بعدة سنين ، وتوجهت قلوب المسلمين وآمالهم نحو المسلمين فى مصر.