كيف أزال المغول الدولة الخوارزمية؟ وكيف كانت نهاية السلطان جلال الدين؟
بعد وفاة السلطان علاء الدين خوارزمشاه ، خلفه ابنه جلال الدين منكبرتي ، وقد استطاع تحقيق انتصارات عظيمة على المغول ، فلماذا لم يستطع مقاومتهم إلى النهاية؟ ولماذا انهار صرح الدولة الخوارزمية أمام زحف المغول؟ وكيف كانت نهاية السلطان جلال الدين؟
بعد انتصار تحالف المسلمين على جيوش المغول بقيادة جنكيز خان ، اختلف المسلمون على الغنيمة ، فحدث تصدع فى الجبهة الإسلامية ، الأمر الذى أدى إلى زيادة ابتلاء الأمة الإسلامية بخطر المغول فى الوقت الذى كانت فيه تقاوم الصليبيين وتقارعهم ، تعالوا لنتناول بشيء من التفصيل عن اختلاف المسلمين وتفتت جبهتم ، ونهاية جلال الدين الحزينة ، وتبدد الدولة الخوارزمية تحت سنابك خيل المغول.
* انتصار يتبعه اختلاف:
بعد هزائم المغول المتتالية على يد جيوش جلال الدين منكبرتي ، جهز جنكيز خان جيشًا كثيفًا لمواجهة جلال الدين ، فتحالف جلال الدين مع أحد أمراء الهند ( سيف الدين بغراق ) ، فالتقى الطرفان فى سهل قرب كابل (فى أفغانستان حاليًا) ، وأوشك الجيش الإسلامي على الهزيمة الساحقة ، ولكن القائد البارع ( سيف الدين بغراق ) صعد بفرقته على جبل يشرف على المعركة ، وألقى على المغول وابلاً من السهام ، فكان سببًا فى انتصار ساحق على جيوش المغول ، وأنقذ الجيش الإسلامي من هزيمة كادت أن تصيبه.
عقب الانتصار على المغول ، استرد الخوارزميون أسراهم ( حيث أجبرهم المغول على القتال ) ، كما غنموا مغانم كثيرة ، وكانت تلك المغانم سببًا فى اختلاف القائدين جلال الدين منكبرتي وسيف الدين بغراق، فغادر سيف الدين بجيشه إلى الهند ، وحاول جلال الدين إنهاء هذا النزاع ، وحاول إثناء سيف الدين عن عزمه ، وأوضح له خطورة هذا العمل على الإسلام والمسلمين ، بل بكى بين يديه ، ولكن سيف الدين بغراق لم يكترث لذلك ، فلعله كان يحارب لغرض الغنيمة فقط ( وكذلك كان حكام المسلمين فى تلك الفترة كأنهم أعجاز نخل خاوية ).
* اختلاف تتلوه هزيمة مروعة:
بعد أن غادر من جيش جلال الدين منكبرتي كثير من الجند بقيادة بغراق إلى الهند ، ضعف جيش الخوارزميين ، وقد علم المغول بذلك ، فعادت فلول جيوشهم المهزوم وانضمت إلى جيش جنكيز خان الذى جاء بنفسه لمحاربة جلال الدين ، فالتقى الجيشان عند نهر السند فى معركة هائلة ، أبلى فيها الخوارزميون بلاء حسنًا ، لكن المعركة انتهت بانتصار المغول انتصارًا كبيرًا ، وقتل من الخوارزميين الكثير ، ولاذ الجند بالفرار إلى نهر السند ، فكان الرجل يلقى بنفسه فيه وهو يعلم أنه لا بد أنه سيغرق.
وأسر المغول ابنًا لجلال الدين لم يبلغ الثامنة من عمره ، فقتله جنكيز خان أمام عيني أبيه ، وعندما بلغ جلال الدين وأسرته نهر السند طلبن منه أن يقتلهن بيديه خوفًا من الأسر ، فأمر جلال الدين بإغراق أمه وأخته و زوجته وسائر حرمه بين يديه ، وتلك من أبشع البلايا ونوادر المصائب.
* جلال الدين منكبرتي فى الهند:
عبر جلال الدين منكبرتي بما تبقى من جيشه نهر السند ، وعلى حافة النهر فوجئ جلال الدين بأن جيشه الذى كان يربو على الثلاثين ألف مقاتل صار الآن أربعة آلاف فقط من الحفاة العراة الذين لا يملكون سلاحًا ولا يقدرون على الحرب ، وأما باقى الجيش فمنهم من انسحب مع سيف الدين بغراق قبل المعركة ، ومنهم من قتله المغول بعد تعذيبه ، ومنهم من سلم نفسه إلى الأمواج تغرقه.
اتجه جلال الدين إلى الهند بأربعة آلاف من الحفاة العراة ، كأنهم من أهل النشور الذين حشروا فبعثوا من القبور ، ومن هناك علم أن المغول اجتاحوا غزنة ( آخر حواضر الخوارزميين ) ، وقتلوا أهلها أجمعين.
اعتزم جلال الدين استرداد قوته ، واستعادة ملكه السليب ، فحارب سلطان دهلى المسلم ( وتلك صورة عن حكام المسلمين آنذاك فلا يلبثوا أن يحاربوا بعضهم البعض عند زوال الخطر ) ، وازداد عدد جند جلال الدين منكبرتي، حيث انضم إليه كثير من الجند الناقمين على حكام الهند ، فاستولى بهم على بعض مدن السند.
إن جلال الدين لم يكن يبغى من لجوئه إلى الهند للإقامة فيها ، وإنما كان يهدف إلى تجنب الاشتباك مع المغول ؛ حتى يستعيد قوته ، ويتخذ من الهند قاعدة له ، يعيد فيها تنظيم صفوف جنده ، وقد واتته فرصة كبيرة لاستعادة ملكه ، حيث توفي طاغية المغول جنكيز خان ، وانسحبت قوات المغول الرئيسية إلى العاصمة ( قراقورم ).
* جلال الدين منكبرتي يستعيد ملكه من جديد:
غادر جلال الدين منكبرتي بجيشه بلاد الهند ، و رحب سكان البلاد الخوارزمية بعودة السلطان جلال الدين ، وأعلنوا له الولاء ، ثم حارب أخاه غياث الدين الذى حكم العراق العجمي وفارس فى غيبة أخيه ، وانتهت الحرب بصلح من الطرفين ، وهكذا كان حكام المسلمين على استعداد لمحاربة أقرب الناس إليهم والمغول ما زالوا على الأبواب.
قوي أمر جلال الدين ، واستطاع استرداد ملكه وسلطانه فى غزنة وخوارزم وكرمان وفارس وخراسان ، وتنفس الناس الصعداء ، لكنه أبى إلا السير على درب غيره من الحكام المتناحرين ، فاعتزم ضم العراق العربي التابع للخلافة العباسية إلى دولته ، ودارت اشتباكات بين الخليفة العباسي وجلال الدين منكبرتي انتهت بعقد صلح بين الطرفين.
* توسع جلال الدين منكبرتي:
بعد أن عاد السلام والوئام بين الدولة العباسية والدولة الخوارزمية ، زحف جلال الدين إلى أذربيجان ، وبسط سلطانه عليها ، ثم هاجم بلاد الكرج وعاقب أهلها على ما فعلوه من غارات على المسلمين ، وأكمل مسيره فى درب غيره من الحكام آنذاك ، فانتزع خلاط من الأيوبيين ، ونكل بأهل خلاط الذين كانوا لا يرغبون فى حكم الخوارزميين ، وقام حلف سلجوقي أيوبي إسلامي ضد الخوارزميين المسلمين ، لكن انتهى الأمر بصلح بين الطرفين ، ولم يتم قيام ذلك الصلح إلا لعودة المغول إلى مهاجمة الديار الإسلامية.
* وفاة جنكيز خان:
توفي طاغية المغول جنكيز خان ، ذلك الرجل الذى كان مبلغ سعادته أن يرى الرجال تركع تحت قدميه ، وأن يقتل منهم من يشاء ، وسماع نحيب النساء ، وصرخات الأطفال ، ولم يبق من ذكرى جنكيز خان إلا الرعب الذى بثه فى نفوس الناس ، وذكريات التخريب والتدمير التى ألحقها بالمدن والقرى ، وقد كان من الصعب على المغول أن يصدقوا بموت الرجل الجبار ، فدفنه أهله فى قبر يحيط به الأشجار ، وأخفوا عن الناس مكان دفنه.
* نهاية جلال الدين منكبرتي:
خلف أوجتاي بن جنكيز خان أباه ، فعمل على استرداد البلاد التى آلت إلى جلال الدين ، فانتزع الري وهمذان ، وتعقب جلال الدين فى تبريز وأذربيجان ، وهزم المغول جيوش جلال الدين فى آمد ، وشردوا جنده ، وظل السلطان يتنقل من بلد إلى بلد ، والمغول تلاحقه أينما سار واتجه ، حتى وصل إلى جبال الأكراد بشمالي العراق ، وقد شك فيه بعض الأكراد ، فأخذوه وسلبوه ، وحبسه كبيرهم عنده ، ولكن رجلاً من الأكراد هاجم المنزل الذى كان فيه جلال الدين ، وقتله ثأرًا لمقتل أخ له على يديه.
وبذلك انتهت حياة رجل طالما بحث عن ملكه وعاش لذلك طوال حياته ، فلم يجد أي غضاضة فى محاربة المسلمين والمغول على الأبواب ، ولم يدخر قواته للخطر الذى يلوح بالأفق ، والذى اضطر أن يحارب المغول حفاظًا على ملكه وصونًا لدولته ، ولكنه ببعض تصرفاته الخاطئة دفع حياته ثمنًا لها ، ومن الجدير بالذكر أنه ليس المتفرد بمحاربة المسلمين ، فذاك كان سمة العصر وصفاته ، ومع ذلك أوتي جلال الدين من الشجاعة والقوة والصبر والإصرار والمثابرة والعزيمة ما لا يتوفر إلا فى قليل من الناس ، فحارب مع أبيه وبعد توليه السلطنة ، وظل طوال حياته يتنقل من بلد إلى بلد يحارب أعداءه أو من ناصب له العداء.
وقد تحمل جلال الدين أعسر الظروف وأصعب الأزمنة ، فلطالما تخلى عنه القادة ، وكثيرًا ما انسحب الجند من جيشه ، واعتادت عينه على رؤية البلاد المدمرة ، والحصون المهدمة ، والمحاصيل التالفة ، والحيوانات الميتة ، والجثث المتعفنة ، والأوبئة الفاتكة ، والسلطان يتحمل كل تلك الأهوال ولا يتقاعس ، ولا يعطى لنفسه قدرًا من الراحة ، ولقد أعجب بشجاعته أقوى خصومه ( جنكيز خان ) ، وقال فيه: ”هكذا يكون الرجال الشجعان“ ، وكانت حركاته السريعة فى مختلف أنحاء العالم الإسلامي موضع إعجاب وتقدير خصومه وأعدائه.
وبوفاة جنكيز خان ثم وفاة جلال الدين انتهت قصة صراع مرير بين رجلين حددا مصير مشرق العالم الإسلامي ، ولكن الصراع بين دولة المغول الناشئة والحضارة الإسلامية الراسخة والعتيقة لم تنته إثر وفاتهما ، وظل الصراع ناشبًا وقويًا بينهما حتى أحدث الله ما أراد.