كيف عانت مصر فى فترة الشدة المستنصرية؟ ( أكبر وأسوأ مجاعة شهدتها البلاد )
على مدار التاريخ، شهدت مصر الكثير من الشدائد والمجاعات، سواء بسبب نقص منسوب النيل، أم بالصراعات والنزاعات الداخلية، فما هي أشد وأسوأ مجاعة شهدتها مصر فى التاريخ؟ وفى أي عهد كانت تلك المجاعة؟ وما هي الأهوال والشدائد التى شهدها أبناء البلاد؟
فى العصر العبيدي (الفاطمي) شهدت مصر خلال عهد المستنصر بالله أحداثًا جسامًا، وتقلّبات اقتصادية وسياسية واجتماعية سريعة، أثرت سلبًا على مركز الدولة، فتراجعت قوتها، وبذلك يُعدّ عهد المستنصر حدًا فاصلاً بين عهد الملوك العبيديين الأقوياء، وعهد الوزراء، ففى أثنائها نقلت السلطة العبيدية نهائيًا من أيدي أسرة العبيديين إلى أيدي الوزراء، فيما عُرف في التاريخ العبيدي بعصر الوزراء، ولم يتمكن المستنصر ولا من أتى بعده من التخلص من براثنهم، تعالوا نتناول بشيء من التفصيل عن الشدة المستنصرية التى تجرعتها البلاد فى تلك الفترة.
عهد المستنصر بالله العبيدي:
کانت شؤون الدولة في أيدي عدد من الوسطاء الذین کانت جهودهم موجهة لمحاولة الاحتفاظ بالوضع القائم، ولكن ذلك كان أمرًا مستحيلاً، إذ أن تاريخ هذه المرحلة يقتصر على أخبار متكررة من فوضى داخلية متواصلة، وتدهور مستمر في أوضاع مصر الاقتصادية، فقد انخفض الإنتاج الزراعي بسرعة حتى أن الفاطميين اضطروا إلى إجراء مفاوضات مع البيزنطيين بتأمين القمح من بيزنطية، واجتاحت البلاد الأوبئة، بالإضافة إلى أزمة إدارية حادة أضعفت قوة الدولة ونفوذها.
هذا على الرغم من حالة الرخاء التي شهدتها البلاد في أوائل عهد المستنصر والتي لم تستمر طويلاً، فقد أشاد الرحالة ناصر خسرو بالأمن الذي شاهده في مصر في أوائل عهد المستنصر، وقال ”إنه لم يره في بلد من قبل“، وعلّل ذلك بفضل المذهب الإسماعيلي الذي عدّه كفيلاً بإنقاذ العالم الإسلامي، وإذا صدّقنا ناصر خسرو على الرغم مما يبدو على وصفه دائمًا من مبالغات كان يهدف منها إلى كسب الرأي العام في فارس لصالح العبيديين الإسماعيليين، وضد السلاجقة المسلمين، الذين بدأوا يظهرون على المسرح السياسي.
وشهد الوضع السياسي الداخلي صراعات دامية بين طوائف الجند المختلفة، وبخاصة الأتراك والسودان في ظل حکم صبي، ولم یکن أمام القیمین الفاطميين أي خيار آخر غير التسليم بسلطة عسكرية تنقذهم وتنتشل البلاد من الانحلال التام، ولكن لم ينجح العسكريون فى فعل أي شيء، بل كانوا سببًا أساسيًا فى تفاقم الأوضاع، وازديادها سوءًا.
تدهور الوضع الاقتصادي:
کانت تنتاب مصر من وقت لآخر المجاعات، التی یسببها نقص منسوب میاه النیل، فتُترك الأرض من دون زراعة، لعدم توفر المياه اللازمة للري، ويتعذر وجود الأقوات، وترتفع الأسعار، وتزداد الحالة تفاقمًا في غياب التخطيط الاقتصادي السلیم.
وقد استمرت الأزمات الاقتصادية في عهد الاخشیدیین مدة تسعة أعوام، بحيث أنها كانت أحد الأسباب التي أدّت إلى مجيء العبيديين، وعلى الرغم من التدابير الاقتصادية الناجحة، التى اتخذتها الحكومات العبيدية المتعاقبة، لتفادي الأزمات الاقتصادية، إلا أن المجاعات عادت إلى الظهور في عهد الحاكم بأمر الله بين أعوام (395 – 399 ه)، وازدادت في عهد الظاهر، بسبب کثرة القوارض التى أتت على كل شيء، وبلغت الذروة في عهد المستنصر.
فبعد أزمة الحنطة التى حدثت في عام (40 هـ)، عاد منسوب النيل إلى التناقص في الأعوام (٤٤٢هـ)، (447هـ)، (457هـ – 464هـ)، وأصيبت مصر بأسوأ أزمة اقتصادية مرّت بها في عصورها التاريخية، فارتفعت الأسعار، وتزايد الغلاء، وأعقبه الوباء، حتى خلت الأراضي من الزرع والضرع، وتفشى الجوع لعدم توفر الأقوات.
محاولات فاشلة:
عالج الوزير أبو محمد الحسن اليازوري هذا الوضع الاقتصادي المتدهور بشکل ارتجالي دون تخطیط سلیم، بهدف التقرب من المستنصر، فقد کان هذا الأخير يشتري في كل عام غلالاً بمائة ألف دينار، ويخزنها بهدف الاتجار بها، فكان الاحتفاظ بهذه الغلال يشكل احتياطًا للبلاد، لكن اليازوري أقنعه بالاستعاضة عن تخزين الغلال، بتخزين مواد ذات مدخول أفضل، وذلك بهدف الحصول على نسبة أعلی من الريح.
ترتب على ذلك أنه عندما حدثت المجاعات لم يكن هناك احتياطي من الغلال، كما تلاعب التجار بأسعار الغلال التي في حوزتهم، فكانوا يخفونها لبيعها بالسعر الذي يريدونه، وتصدّى اليازوري لهذه الظاهرة، فصادر ما في مخازن التجار، وختم عليها، وأجرى مفاوضات مع الحكومة البيزنطية لاستيراد الحبوب من بيزنطية.
حلول المجاعة بالبلاد:
استمرت الأزمة بعد موت الیازوري في عام (450هـ)، وکان سببها الرئيسي تلك الصراعات، التى بدأت فى العقد الخامس، وقد شخص المقريزي أسباب الأزمة فذكر أنه، لما قُتل الوزير اليازوري
”لم ترَ الدولة صلاحًا، ولا استقام لها أمر، ووقع الاختلاف بین عبید الدولة، وضعفت قوی الوزراء عن تدبیرهم لقصر مدتهم، فخربت أعمال الدولة، وقل ارتفاعها، وتقلب الرجال على معظمها، واستضعفوا ارتفاعها، حتى انتهى ارتفاع الأرض السفلى إلى ما لا نسبة له من ارتفاعها الأول، وطغى الرجال وتجزأوا، حتى خرجوا عن طلب الواجبات إلى المصادرة، فاستنفدوا أموال الخليفة، وأخلوا منها خزائنه، وأحوجوه إلى بيع أغراضه، ثم زادوا في الجرأة، حتى صاروا إلى تقويم ما يخرج من الأعراض، وتلاشت الأمور، واضمحل الملك، وعلموا أنه لم يبق ما يلتمس إخراجه لهم، فتقاسموا الأعمال، ودام ذلك بينهم سنوات إلى أن قصر ماء النيل، فساعد ذلك على زيادة الأزمة لعدم وجود من يزرع ما شمله الري، لاتصال الفتن بين العربان، واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدولة“.
وقد بلغت الأزمة أوجها في عام (457هـ)، وامتدت سبعة أعوام، وعُرفت بالشدة المستنصرية، نسبة إلى المستنصر بالله العبيدي، وكانت أكثر وضوحًا في الأقسام الشمالية للفسطاط، فقد خربت القطائع، حتى أمر الوزير ببناء حائط يستر الخراب عن نظر المستنصر إذا سار من القاهرة إلى الفسطاط، فيما بين العسكر والقطائع وبين الطريق، كما أمر ببناء حائط آخر عند جامع ابن طولون.
وعندما دخل أمير الجيوش بدر الجمالي إلى مصر في عام (٤٦٦هـ)، کانت هذه الأماکن خاویة علی عروشها، خالیة من سکانها، وأضحت القاهرة يبابًا دائرة، فأباح للناس من العسكرية والملحية والأرمن وكل من وصلت قدرته، إلى عمارة أن يعمر ما شاء فى القاهرة مما خلا من دور الفسطاط بموت أهلها، فأخذ الناس في هدم المساكن ونحوها بمصر، وعمروا بها القاهرة.
أهوال الشدة المستنصرية:
كانت آثار هذه الأزمة شديدة على السكان، فعانوا الأمرّين في معيشتهم، وتفاقمت أسعار الأطعمة، فبيعت البيضة بعشرة قراريط من الأرض، وبلغت شربة الماء دينارًا، وكان رغيف الخبز يُباع فى المزادات مثلما تباع التحف والطرف، ثم انتهى الدقيق والخبز، فأُكلت الكلاب والقطط، حتى كان سعر الكلب خمسة دنانير.
وبيعت حارة بأكملها مقابل طبق خبز، عن كل دار رغيف، فعُرفت تلك الحارة بحارة (طبق)، وقد اندثرت فيما اندثر ، وأكل الناس جريد النخل، وتزايد الحال سوءًا، حتى أكل الناس الجيف والموتى.
وقد كان يوجد من يتربصون المارين فى الأسطح بالخطاطيف، فإذا رأوا أحدًا بالطرقات قتلوه، وشرحوا لحمه وأكلوه، وخوفًا من السلب والنهب، حرق التجار والأغنياء ما يملكونه من الذهب والفضة، وتظاهروا بالفقر والفاقة.
وقد جاء الوزير يومًا على بغلة له، فأكلها العامة، فأمر بهم ليتم شنقهم، فاجتمع الناس على القائمين بأمر الإعدام، وأكلوهم.
ومن عجيب ما وقع، أن امرأة من أرباب البيوت عرضت عقدًا لها قيمته ألف دينار على جماعة مقابل دقيق، ولكنهم اعتذروا لها، إلى أن رق لها رجل، وباعها به بضع كيلوجرامات من الدقيق، ولكن الناس تكاثروا عليها، وانتهبوه منها، ولم يبق معها من الدقيق سوى ملئ يدها فحسب.
وكان الناس يتساقطون جوعًا، بعد أن يغلبهم الموت، فألقى الناس أمواتهم فى النيل بدون أكفان، وقد فقدت مصر في هذه الأزمة أكثر من ثلث سكانها.
المستنصر بالله بين الرخاء والشقاء:
تولى المستنصر بالله مقاليد الحكم وهو منعم برخاء واسع، فكان يملك ما لا يعد ولا يحصى من الأرض، والقصور، والدور، والأحجار الكريمة، والأثواب الحريرية، والسيوف الذهبية، وفى خزانته ثلاثون مليون دينارًا من الذهب، ومما زاد فى ثراء المستنصر أنه ورث عمتيه الأميرتين، وكانت ثروتهما تقدر بخمسة ملايين من الدنانير.
ولكن لم يدم ذلك طويلاً، فقد استباح الجند ما وجدوه فى بيوت المال، ولم يبق فى الدولة مال يُرجع إليه، ولا خزينة يُعول عليها، وبلغ من شدة المستنصر، أنه اضطر إلى أن يبيع كل ما في قصره من ذخائر وثياب وأثاث وسلاح وحتى رخام قبور آبائه وأجداده، وصار یجلس في قصره علی حصیر، ویرکب وحده، وکل من معه من الخواص مترجلين ليس لهم دواب يركبونها، ولم يكن له قوت سوى ما تبعث به ابنة أحد الفقهاء، وهو مرة واحدة فى اليوم ليس إلا.
وخرج نساء قصوره يصحن: الجوع .. الجوع، وهن يردن المسير إلى العراق، فتساقطن عند باب النصر من القاهرة، ومتن جوعًا، أما والدته وبناته، فقد نجح فى إرسالهن إلى بلاد الشام، کما هاجر بعض سکان مصر، وتشتتوا في البلاد.
أما عن قبضة المنصور الخارجية، فبعد أن امتدت إلى اليمن والحجاز، إضافة إلى مصر والشام والشمال الأفريقي، ووصل امتداد سلطانه حتى تغلب العبيديون على بغداد (حاضرة الخلافة العباسية)، وخطب له، فيما يُعرف بتمرد البساسيري.
ولكن كل ذلك النفوذ لم يلبث أن يصيبه الانكماش والانحسار، فالمعز بن باديس أعلن استقلاله بالشمال الأفريقي، بل أعلن تبعية بلاده إلى المذهب السني، والبساسيري آلت حركته للفشل، وعادت بغداد لخلفاء بنى العباس، تحت سيطرة السلاجقة، الذين أخذوا يهاجمون المدن الشامية، ويضمونها تحت نفوذهم، إضافة إلى حركات آل مدراس التى بدأت تحكم بلاد الشام حكمًا لا يربطه بالمستنصر إلا خيط ضئيل، وضاعت صقلية، بعد أن استولى عليها النورمانديون عام 463هـ.
قدوم بدر الدين الجمالي:
كانت قوة بدر الدين الجمالي (والى عكا) آخذة فى التصاعد، فعقد المستنصر آماله عليه، وطلب منه القدوم وإنقاذ البلاد، فرحب والى عكا بهذه الدعوة، واشترط القدوم بجنده الأرمن، للاستعاضة بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودان، الموجودين فى مصر، فوافق المستنصر على ذلك.
أبحر بدر الدين الجمالي من عكا، على متن مائة سفينة، ونزل فى دمياط، ثم قصد القاهرة، فاستقبله المستنصر، وأكرم وفادته، وأطلق يده فى إصلاح أحوال البلاد.
عمل بدر الدين الجمالي على تحقيق الأمن والهدوء فى العاصمة، وإعادة ما نهب من القصور العبيدية، وتخلص من القادة الأتراك، وحقق الأمن فى الوجه البحري، حيث قاتل اللواتيين، وقبائل جهينة، وأعاد نفوذ البلاد على كافة الوجه القبلي.
التفت بدر الدين بعد ذلك إلى إصلاح الشؤون الاقتصادية، فرفع الأعباء المالية عن كاهل الفلاح، وبذلك انتظمت الزراعة، وزاد خراج البلاد، ثم أمن الموانئ المصرية، وقوى عضد الجيش، وهو الأمر الذى وضع نهاية للشدة المستنصرية.