من هي ملكة سبأ المذكورة في القرآن الكريم؟ وهل هي بلقيس كما يزعم البعض؟ وما قصتها مع نبي الله سليمان؟
تعتبر بلقيس واحدة من أكثر نساء التاريخ ذكرا وشهرة، ولقد ذاع صيتها حتى صار ملهما لكثير من الأعمال الأدبية والسنمائية، وتربط جل المصادر التاريخية بين بلقيس وبين ملكة سبأ المذكورة في القرآن الكريم، فهل تلك الملكة هي بلقيس كما يزعم البعض؟ وما قصتها مع نبي الله سليمان؟
بلقيس: صاحبة العرش العظيم:
تاريخ هاته الملكة غير واضح، وليست هناك مصادر كثيرة يمنك اعتمادها والركون إليها فما يتعلق بتاريخ بلقيس وقصة حكمها، بل حتى إن اسمها غير مثبت، ومن غير المثبة أيضا ما إذا كانت صاحبة هذا الاسم هي المذكورة في سورة النمل، ولا تزال الأبحاث التي يقوم بها علماء الآثار في اليمن لم تخلص إلى أية حقائق حول تاريخ بلقيس، ما عدا بعض الحفريات التي تشير إلى وجود مملكة قديمة في أرض اليمن، كانت تعرف باسم سبأ. وأما جل ما يتناقل حول حاته الملكة فإنه في الغالب مستوحى من التوراة والإنجيل، والنسخ الموجودة منهما الآن لا يمكن الاستنتد إليها في إثباة أي حقيقة تاريخية، هاته شهادة يجهر بها علماء التاريخ الغربيون قبل العلماء المسلمين، هذا من جانب، أما من جانب آخر فإن ما ورد في القرآن الكريم عن قصة تلك الملكة السبئية وما جرى لها مع نبي الله سليمان عليه السلام، فذلك حق لا مراء فيه، ولكن ما ساقه أغلب المفسرين من أخبار عن تلك الملكة واسمها واسم أبيها وتاريخها، فذلك ما لا نسلم به، ولكن طبيعة التاريخ ودأب المؤرخين جرى على أن يملؤوا فجوات التاريخ بما هب ودب من أخبار وروايات، وسنستأنس في مقالنا هذا ببعض تلك الأخبار، مع كوننا لا نسلم بها، ولا بكثير مما أوردناه في قصص غيرها من الملكات المذكورة في مقالنا حول أشهر النساء اللاتي حكمن في التريخ، ولكنني أنقل لكم ما ذكره المؤرخون، والعهدة عليهم.
اسمها ونسبها وعصرها:
يذهب الكثير من المؤرخين إلى أن للمرأة التي ذكرت في قصتها في سورة النمل وفي بعض الكت القديمة، هي الملكة بلقيس، ولقد عاصرت هاته الملكة نبي الله سليمان عليه السلام، والذي يرجح أنه عاش خلال القرن العاشر قبل الميلاد، وأن مملكتها كانت باليمن، واسمها سبأ، وأبوها هو المملك الهدهاد بن شرحبيل، تولت عرش سبأ بعد وفاة والدها، وتذكر بعض المصادر أنها اتسمت بالحكمة والدهاء.
ويحدثنا العلامة الطهر بن عاشر في تفسيره التحرير والتنوير عنها فيقول:
”بلقيس (بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القاف) ابنة شراحيل، وفي ترتيبها مع ملوك سبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين. والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة. ويقال: هي التي بنت سد مأرب. وكانت حاضرة ملكها مأرب مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل“.
ولكن قوله رحمه الله بأنها بانية سد مأرب مجرد دعوى شائعة بين المؤرخين، ولا دليل على صحة ذلك.
وعلى الزعم بأن بلقيس هاته هي التي ذكرت قصتها في سورة النمل، فإنها كانت تدين بدين وثني، وكانت تعبد مع قومها الشمس، إلى أن مر بها هدهد سليمان عليه السلام يوما فوجدها على تلك الحال، فنقل خبرها إلى نبي الله سليمان، ونبأه بأن لها عرشا عظيما، مما يدل على أن مملكتها كانت تعيش حالة ازدهار ورخاء.
كتاب سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ:
وعلى إثر ذلك الخبر كتب سليمان عليه السلام إلى هاته الملكة كتابا جاء فيه: ”بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين“ (النمل: 31).
ولما وصل الكتاب إلى تلك الملكة جمعت الوزراء والوجهاء، واستشارتهم في الأمر، فأشاروا عليها بالحرب وتجييش الجيوش لمواجهة سليمان عليه السلام وجنوده، ولكنها لم توافقهم الرأي، حيث أحست بأن جيشها لا طاقة له بمواجهة جيش سليمان عليه السلام، وأنه في حالة هزيمتهم فليس هناك فرصة للنجاة من بين يدي ذلك الجيش العتيد، ومن هنا جاء اقتراحها ببعث وفد إلى الملك سليمان عليه السلام، محملا بالهدايا الثمينة والأموال الباهضة؛ لتعرف من خلال تلك الهدية سبب قدوم سليمان بجيشه إليها، فإن قبل الهدية فهذا يعني أنه طامع في خيرات بلدها وثرواته، وإن لم يقبل فهذا دليل على أنه نبي، ولا هم له إلا الإيمان بالله، فإن هي آمنت سلمت وسلم قومها، وإن هي أبت أغار عليها بجيشه ليزيحها عن طريق الدعوة إلى التوحيد، ولكي لا تكون مانعا أمام المتطلعين إلى الإيمان من بني قومها.
وكل ذلك والهدهد يراقب من كثب.
وفد سبأ يصل إلى بلاط سليمان عليه السلام:
ولما جاء الوفد إلى سليمان عليه السلام، وقدم بين يديه ما حمله من هدايا وتحف، كان رد سليمان عليه السلام حازما، قال تعالى مبينا جواب سليمان على هدايا ملكة سبأ: ”قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون“ (النمل: 36، 37).
وهكذا كان هذا الرد القوي الذي بين فيه نبي الله سليمان لرسل ملكة سبأ أنه في غنى عن أموالهم، وأن ما أمده الله به من النبوة والإيمان والنعم الأخرى أخير مما عندهم، وأن هاته الهدية العظيمة بالنسبة لهم، والتي هم بها فخورون وبطرون، لا تساوي بالنسبة لنبي الله سليمان عليه السلام شيئا، ثم قال تلك الكلمة الثقيلة على قلوبهم، والتي هزتهم هزا، وهي التلويح بالهجوم الشامل الكاسح: ”فلناتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون”.
عرش بلقيس في حضرة سليمان عليه السلام:
ولما رجع الوفد إلى ملكة سبأ، وحدثها بما جرى في حضرة سليمان، أيقنت أن الأمر لا يتعلق بملك عادي، تستهويه الأموال والثروات، وأنه بلا شك نبي يسعى إلى نشر الإيمان بالله، ودعوة الحيارى إلى طريق النجاة، وبناء على ذلك الاقتناع، تحركت ملك سبأ نحو نبي الله سليمان لتعلن إسلامها بين يديه.
ولما علم نبي الله سليمان عليه السلام بقدومها إليه، أمر بعض جنوده الذين سخرهم الله له بأن يأتيه بعرشها، ذلك العرش الذي وصفه الهدهد بأنه عرش عظيم، وبقوة الله ومشيئته استطاع أحد جنود سليمان عليه السلام نقل العرش من سبأ إلى مكان تموضع جيش سليمان في أقل من طرفة عين، ثم أمرهم بأن ينكروا ذلك العرش حتى لا تتعرف عليه من أول وهلة، وليكون ذلك اختبارا لذكائها وحصافتها.
ولما قدمت ملكة سبأ على الملك سليمان عليه السلام طرح عليها ذلك السؤال الذي فاجأها، حيث قيل لها وهي تنظر إلى ذلك العرش الماثل أمامها: ”أهكذا عرشك“؟ نظرت إلى العرش مليا، إنه شبيه جدا بعرشها، ولكنها تركته خلفها في مملكتها سبأ، فما الذي جاء به إلى هنا؟ وما هي هاته القوة الجبارة التي استطاعت حمل عرش بذلك الحجم والوزن كل تلك المسافة؟ لعله ليس عرشها، بل هو مجرد نسخة شبيهة به، ولكن أين رأى سليمان عرشها حتى يبني عرشا مثيلا له! هذا أمر محير، ولكن إجابتها كانت حكيمة إلى حد ما، فهي لم تنف كونه هو، ولم تثبت أنه هو عرشها، بل أجابت إجابة ذكية على ذلك السؤال الذكي، فالسؤال لم يطلب منها تحديد ما إذا كان هذا العرض هو عرشها أم لا، وإنما كان السؤال عما إذا كان يشبهه أم لا، ولذا أجابت قائلة: ”كأنه هو“.
والذي منعها من القول بأنه هو عرشها، هو ما كانت تؤمن به وتعبده من دون الله، فهي تعرف أن آلهتها لا تستطيع فعل أمر كهذا، ونقل عرش بهذه الضخامة والعظمة كل تلك المسافة في ظرف وجيز، ولو أنها آمنت بأن سليمان عليه السلام نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وأن الله على كل شيء قدير، لاستطاعت القول بأنه عرشها، لذا كان تعليق نبي الله سليمان على ردها هو قوله: ”وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين“ (النمل: 42)، أي أن سليمان عليه السلام كان له علم بقدرة الله من قبل تلك الملكة، فهي لم تكن تؤمن بالله ليكون لها علم بقدرته سبحانه.
الصرح الممرد:
وبعد اختبار العرش المنكر، خاضت ملكة سبأ اختبارا آخر هو أغرب وأعجب، وذلك حين أشار عليها الملك سليمان بدخول الصرح، ولما دنت من الصرح، وهو عبارة عن سطح شفاف ممرد وممهد من الزجاج، وتحته ما يشبه أن يكون ماء كثيفا، حسبت أنها ستخوض في الماء، فرفعت رداءها قليلا حتى كشفت عن ساقيها، من أجل أن تقطع لجة الماء إلى الجهة الأخرى حيث سليمان عليه السلام، ولكن سليمان لم يتركها غارقة في وهمها ذلك حتى تفجأها صلابة الصرح، وإنما أخبرها أنه سطح أملس شفاف، وليس ماء.
تلك الحادثة كانت سبب كافيا لتعلن ملكة سبأ عن إسلامها ودخولها في دين الله تحت إمرة سليمان عليه السلام، ويسجل القرآن الكريم ذلك الإعلان في قوله جل وعلا: ”قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين“ (النمل: 44).