لماذا سميت العصور الوسطى في أوروبا بالعصور المظلمة ؟
العصور الوسطى هي تلك الفترة التي شهدتها القارة الأوروبية من بدايات القرن الخامس الميلادي وامتدت حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي مع بداية عصر التنوير والانفتاح على العلم واكتشاف عوالم جديدة. ولكن ما سبب تسمية تلك العصور الوسطى بـالعصور المظلمة؟
كثيرا ما نسمع عن عبارة القرون الوسطى وهي تصف حقبة تاريخية معينة من تاريخ أوروبا ثم غالباً ما نتبعها بكلمة المظلمة … أو نراها بشكل آخر ”القرون الوسطى المظلمة ”، والحقيقة أن وصف حقبة القرون الوسطى التي امتدت لما يقارب العشرة قرون بأنها جميعها كانت مظلمة فيه نوع من الاجحاف بتاريخ القارة العجوز، لأن تلك الحقبة لم تكن كتلة واحدة متشابهة في الأحداث والصراعات والتطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل شهدت فروقاً شاسعة بين بدايتها ونهايتها.
1. تقسيمات القرون الوسطى:
تنقسم فترة القرون الوسطى إلي ثلاث مراحل، المرحلة الأولى : من القرن الخامس الميلادي وحتى القرن الحادي عشر الميلادي، ثم المرحلة الثانية: تبدأ من القرن الحادي عشر إلي القرن الثالث عشر الميلادي، ثم المرحلة الأخيرة وهي التي تسبق عصر النهضة وهي تبدأ من القرن الثالث عشر إلي القرن الخامس عشر الميلادي.
أ. المرحلة الأولى
تبدأ تلك المرحلة عقب سقوط الإمبراطورية الرومانية التي كانت مسيطرة على معظم أنحاء القارة الأوروبية، ولا يعلم تحديداً تاريخ هذا السقوط الذي استمر في التدهور تدريجياً ولسنوات عديدة، فقد كانت الإمبراطورية الرومانية في أوهن حالاتها حيث استطاعت القبائل الجرمانية والإنجلو ساكسون والقوط في مهاجمتها واقتطاع أجزاء منها وإقامة ممالك لها دون أي مقاومة، وتلك المرحلة نالت وبحق لقب العصور الوسطى المظلمة لأنها اتسمت باضمحلال العلوم وتراجع الثقافة وتدني طلب العلم وأصبحت العلوم تقوم على الخرافة والمتوارثات الشعبية الأسطورية ولا وجود لمدارس فكرية أو مجمعات للعلماء، ومع بداية القرن السابع الميلادي ومع ازدياد حركة التنصير لتلك القبائل والشعوب البربرية التي تسكن أوروبا بدأ نوع من العلوم يسري بين رجال الدين هو علم اللاهوت، وظهرت في تلك الفترة المملكة الكارولنجية والتي نشأت في فرنسا بدأها الملك شارل مارتل في منتصف القرن الثامن إذ استطاع توحيد معظم القبائل والإقطاعيات وضمها تحت لواء واحد ثم أكمل ابنه شارلمان ما بدأه والده، لكن هذا الحكم لم يدم طويلاً إذ اختلف أبناء شارلمان على أحقية كل منهم على وراثة العرش مما ساهم في تفتت وتمزق دولتهم.
طبقات المجتمع
عرفت تلك المرحلة بوجود ثلاث طبقات للمجتمع هم رجال الدين والإقطاعيين والفلاحين والعبيد، فبعد نشر المسيحية بدأ يكون لرجال الدين سيطرة ونفوذ على العامة والبسطاء بسبب ما عانوه من فقر وحرمان فلجأوا للكنيسة التي قدمت لهم في البدايات المعونات، قبل أن تتحول الكنيسة من راعية للفلاحين إلي مٌطالب للمال عن طريق صكوك الغفران والعمل التطوعي داخل الأديرة وعلى الأراضي المملوكة الكنيسة… إلي جوار رجال الدين تواجدت طبقة الإقطاعيين أو النبلاء وكانوا يلقبون بعدة ألقاب مثل البارون الدوق الكونت الأمير ،وهم المالكون للأراضي حيث امتلكوا المال والفلاحين والعبيد الذين يعملون على هذه الأرض الذين لا حول لهم ولا قوة، فليس لهم أدنى أو أبسط حقوقهم الحياتية بل أن بعضهم كان يعمل في المزارع والأديرة بالسخرة.
فترة حكم الكنيسة
ولم يكد يحل منتصف القرن العاشر حتى كانت الكنيسة قد استحوذت على مساحات شاسعة من الأراضي وكثرت لديها مخازن الغلال وطواحين الهواء وتدفقت إليها الأموال حتى أضحى البابا في روما أكثر ثراء من ملوك أوروبا، وتم تنصيب بابا الكنيسة الرومانية حاكماً على ملكوت الأرض وأصبحت الأمور السياسية بيد البابا، ولم يجرأ أحد من الملوك على العصيان أو التمرد، وإلا عوقب هو ورعاياه بالطرد من رحمة الكنيسة.
ب. المرحلة الثانية
وتبدأ من القرن الحادي عشر وتمتد حتى القرن الثالث عشر، وتتميز تلك المرحلة بتعاظم دور الكنيسة وإحكام قبضتها على كافة مناحي الحياة، وعرضت صكوك الغفران على الرعية التي جلبت لها أموالاً طائلة ومن لم يستطع دفع قيمة الصكوك عليه بدفع ضريبة الدم وهي القتال من أجل الصليب، ومن هنا بدأ التحضير للحروب الصليبية التي كانت لها أهدافاً ظاهرية في السيطرة على بيت المقدس بحجة اضطهاد المسلمين للمسحيين، وأهدافاً خفية بهدف السيطرة على بلاد المشرق ومحو الدولة الإسلامية من جذورها (الشام ومصر) ونجحوا حيناً من الزمن إلا أن انتصاراتهم قد تراجعت حتى خسروها في معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي عام 1187،حينها أدرك الملوك والأمراء الأوربيون أنهم لم يكونوا إلا وسيلة وأداة في يد الكنيسة، ومن هنا بدأت ظهور الحركات التحررية والتمرد على سلطان البابا في روما.
ج. المرحلة الثالثة
تبدأ المرحلة الثالثة في العصور الوسطى بداية من القرن الثالث عشر الميلادي، وشهدت تلك المرحلة الكثير من الأحداث الفارقة في تاريخ القارة العجوز، وسميت هذه المرحلة باسم (العصور الوسطى الراقية)؛ لأنها بدأت تشهد تحرر الأفكار والعلوم من أغلال الحكم الكنسي وإن كانت على استحياء خوفاً من بطش وجبروت محاكم التفتيش التي كانت تحارب العلوم والاكتشافات الحديثة وكل ما يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس باعتبارها ضروب من الشياطين وأساليب السحرة الشنيعة التي تستوجب العقاب.
وبعد أن ظهرت طبقات جديدة من التجار والعمال الذين هجروا المزارع والحقول واتجهوا صوب المدن والموانئ للعمل بالتجارة وتداول الأموال بين تلك الفئة التي خلقت لنفسها مكاناً متميزاً بين النبلاء والفقراء عرفت باسم الطبقة الوسطى، لم يكد يأتي عام 1315 حتى خيم على أوروبا موجات من الصقيع الشديدة البرودة التي أتت على الإنسان والحيوان ولم تسلم منه المحاصيل وظلت مستمرة لسنوات عدة حتى عرفت تلك المرحلة باسم ”المجاعة الكبرى”، ومع قلة وسائل التداوي والتطبيب ومع انتشار الجهل وقلة النظافة العامة والشخصية بل وانعدامها في أحيانٍ كثيرة، كل هذه الأمور أدت مجتمعة إلي تفشي الأمراض والأوبئة الناتجة عن التلوث بين مختلف طبقات المجتمع مثل التيفويد والحمى الصفراء والأنيميا ولم يكد يسلم الباقين من الأوروبيين من تلك الأمراض حتى واجهوا أخطر وأفتك الأمراض في ذلك العصر ألا وهو الطاعون المدمر أو كما يسمونه الموت الأسود، حيث انتقل عن طريق الفئران القادمة من الرحلات التجارية مع بلاد الشرق وتحديداً الصين، وكان يعتقد بداية بأن الفئران أو الجرذان هي المسبب الرئيسي لذلك المرض الخبيث لكن اتضح لاحقاً أن المسبب لها هي الطفيليات أو البراغيث التي تحملها الفئران وكانت تلك البراغيث تحمل جينات المرض في أمعائها ثم تنقله إلي بني الإنسان وتطورت جينات أخرى من المرض لتنتقل عن طريق الهواء مثل الكحة أو العطس، وكان الطاعون ينتشر بصورة مخيفة حتى أنه استطاع في خلال أقل من عشر سنوات أن يقضي على ثلث سكان القارة الأوروبية.
2. محاكم التفتيش
ومن العلامات البارزة التي ظهرت في حقبة العصور الوسطى المظلمة هي محاكم التفتيش التي شكلت بأمر من الكنيسة ،وكانت تعقد تحت رعايتها، وكانت بدايتها تقوم على محاربة السحرة والمشعوذين والدجالين الذين يؤمنون بالغيبيات، فكانت تصدر عليهم الأحكام التي كانت في بدايتها هي الموت عن طريق الشنق أو الغرق، لكن مع تنامي سلطات الكنيسة أصبحت محاكم التفتيش تابعة لها وتعددت فيما بعد الاتهامات لكل من يعارض الفكر الكنسي أو يدعو للتحرر أو الثورة والتمرد على ذلك النظام المجرد من الإنسانية خاصة مع ازدياد وعي العامة ونشر نسخ من الأناجيل باللغات المحلية مما كشف للمسيحيين أن ما تقوم به الكنيسة بعيد كل البعد عن تعاليم الإنجيل الرحيمة، وكان يحق لمحاكم التفتيش أن تطلق لقب مهرطق أو مبتدع على أي شخص تشك مجرد شك في إيمانه أو انحراف عقيدته عن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، ثم تفنن رجال الكنيسة في ابتكار وسائل للقتل والتعذيب تعد الأبشع والأفظع على مر العصور من الحرق ميتاً إلي النشر بالمنشار إلي الجلوس على الخازوق أو كرسي المسامير أو الشوي داخل الثور المعدني حيث تحمى عليه النار إلي السلخ حياً ثم ترك جثة المهرطق في العراء لتأكلها الضواري والطيور الجارحة… وما فعلته محاكم التفتيش الإسبانية في من بقي من المسلمين على أرض الأندلس ليس من ذلك ببعيد.
3. نهاية العصور الوسطى
قبل أن تنتهي العصور الوسطى شهدت نهايتين أخريين، الأولى: نهاية حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا التي امتدت منذ عام 1337 لتنتهي في عام 1453، الثانية: نهاية الدولة البيزنطية في الشرق عقب سقوط عاصمتها القسطنطينية في أيدي المسلمين في نفس العام تقريباً.
لم تنتهي العصور الوسطى إلا بعد أن انتشرت المعرفة وفتحت الأبواب للأدباء والفلاسفة والمفكرين وطلبة العلم وبناء الجامعات والحث على طلب العلوم والسعي إليها وتشجيع ودعم الفنون والاكتشافات العلمية، كل هذا تم تدريجياً في مرحلة لاحقة عرفت باسم عصر النهضة أو عصر التنوير، لتنطلق أوروبا منها نحو التقدم والإنسانية واحترام حرية الفكر واعتقاد المواطن الذي ظل محجوراً عليه لقرون عدة بالتأكيد هي الأسوأ والأسود في تاريخ أوروبا؛ عرفت باسم العصور الوسطى المظلمة.