كم سنة استغرقتها رحلات ابن بطوطة الرحالة العربي الشهير؟
عندما خرج ابن بطوطة في رحلته قاصدا بيت الله الحرام لم يكن يدور بمخيلته مهما أوتيت من سعة أن تمتد رحلاته لسنوات طوال يطوف خلالها أصقاع وأقطار لم يكن يدري عنها شيئاً حتى في كتب السالكين الأولين فخطى خطوات واسعة ووثق بعينه كل ما رآه وشاهده ليقصه على الناس عند عودته … ولم يدع شاردة ولا واردة إلا و ذكرها في كتابه ”تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”. فما هي قصة ابن بطوطة وكم سنة استغرقت رحلاته؟
ابن بطوطة ذلك الرحالة الذي راودته نفسه للقيام بعمل لم يسبقه إليه أحد من الأولين، ولو حدَّث محبيه وصاحبيه عن نيته فيما سيفعل ما وافقوه ولاتهموه بالجنون، إن ابن بطوطة عندما خرج من مدينته قاصداً بيت الله الحرام لم يكن أبداً يتصور في عقله مهما أوتي من ملكة الخيال أن قدماه ستحملانه إلي تلك البقاع المجهولة في أقصى أقاصي الشرق ومجاهل أفريقيا وجزر سومطرة، لكنه خرج متحمساً يدفعه الفضول لاكتشاف المجهول فطاف البلاد وعاين الدور والعباد وشاهد ما لا تصدقه العقول والألباب …
دعونا نتعرف على قصة ابن بطوطة الرحالة العربي الشهير وكم استغرقت مدتها؟
عندما ولد ابن بطوطة في مدينة طنجة المغربية عام 1304 م، حينها لم يكن يوجد شيء في الأدب اسمه ”أدب الرحلات“ أو أن يخرج رجل من وطنه ويترك أهله وسكنه ويجوب البلدان والأقطار لمجرد اكتشاف طبيعتها وعادات شعوبها، فكانت الرحلات تقتصر في هذه العصور على أمرين اثنين هما حج بيت الله الحرام أو الخروج طلباً للعلم، ولكن حتى هذين الأمرين كان الذي يخرج في طلبهما يعرف جيداً أين سيبدأ وأين سينتهي، لا أن يترك نفسه لأهوائه يذهب كيفما شاء، ولكن هذا ما حدث مع ابن بطوطة وما يجعل من رحلته محط اهتمام وإعجاب الكثيرين هو كونها محفوفة بالمخاطر فلم تكن الطرق مؤمنة إذ كثيراً ما كانت تتعرض القوافل للنهب من قبل قطاع الطرق ولا توجد خدمة على الطريق لأغاثه المريض أو مده بمعونة أو زاد، ناهيك عن التعرض لأخطار الطبيعية من البراري القاحلة المجدبة ووحوش ضارية وأفاعي قاتلة ورياح عاصفة بغير دليل أو رفيق لاسترشاد الطريق سوى شمس النهار ونجوم الليل.
نشأة ابن بطوطة وبداية رحلته
نشأ ابن بطوطة بين عائلة كريمة تعمل في القضاء واسمه الحقيقي ”أبو عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي“ وسمي بابن بطوطة نسبة لأمه فطومة والتي جرى تحريف الاسم لاحقاً إلي ابن بطوطة وهو ذو أصولٍ أمازيغية، حفظ القرآن الكريم في سن صغيرة ودرس الفقه إلا أنه لم يكمل دراسته وكان على علم بالعطارة وأنواع الأعشاب وكيفية التداوي بها، كان والده أحسن تربيته وتعليمه كي يؤهله للعمل بالقضاء، إلا أن هذا الشاب كانت لديه رغبات دفينة ونداء خفي يدفعه لمغادرة البلاد وهجرة الأصحاب لاستكشاف الأمصار والأقطار وطرق أبواب لم يطرقها أحد من قبل … فكانت رحلته الأولى عندما خرج للحج عام 1325 وهو ابن الواحدة والعشرين عاماً، حيث يقول
”خرجت من طنجة مسقط رأسي يوم الخميس 2 رجب 825 هـ 1325م معتمداً حج بيت الله الحرام وزيارة قبر رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، منفرداً عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته، لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم. فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والداي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وَصَباً، ولقيت كما لقيا نَصَباً .
وعندما خرج ابن بطوطة في رحلته كان وحيداً حتى أحس بمدى خطر الطريق فلحق بالقوافل وأخذ يتنقل بينها يتخلف عن قافلة ويلتحق بأخرى حتى يعاشر أصناف أخرى من البشر ويتعلم منهم ويعرف حكاياتهم، ولا حظ ابن بطوطة أنه عند نزوله في أي مدينة كان أصحاب الحرف ينزلون عند إخوانهم من الحرفيين، فنزل هو دواوين القضاء ومجالس الفقهاء وصاحب العلماء ليستزيد من علمهم .
رحلته في شمال إفريقيا
اجتاز ابن بطوطة رحلته في بلاد المغرب الأقصى عابراً مدنه ملازماً لبحر الروم حتى وصل ( صفاقس) ومكث بها أربعة أشهر واتخذ منها زوجة ورفيقة لسفره، وكانت بصحبة أهلها حتى نزلوا في سرت وجرت مشاجرة مع أصهاره فرأى لابد من فراق زوجته، وأكمل طريقة حتى وصل مدينة الإسكندرية عام 1326، ومنها أخذ يتجول في ربوع مصر من القاهرة شمالاً حتى الصعيد جنوباً، وكان ابن بطوطة يصف ويدون أوصاف المدن والدور والقصور والأسواق والآثار وأخص بالذكر الأهرامات لضخامتها وعظم بنيانها، وكان يثني على أهل المدن إن رأى منهم حسناً، وكان يمدح الملوك والسلاطين في أشعاره فينال العطايا والهبات التي تعينه على اكمال رحلاته التي لا تتوقف.
وبعدها خرج ابن بطوطة من مصر قاصداً الشام ومر على الأماكن المقدسة في مدينة القدس وبيت لحم حتى وصل مدينة دمشق ثم اللاذقية فحلب ومنها نزل إلى مدينة رسول الله ثم مكة المكرمة ليؤدي فريضة الحج، وقبل نهاية عام 1326 لازم ابن بطوطة وفداً حاجاً من أهل العراق وانطلق معهم، حتى وصل النجف الأشرف وزار قبر سيدنا علي ابن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ وهناك تخلى عنهم وعبر نهر دجلة ومكث بالبصرة وكان دائماً ما ينزل بالخانات ـ الفنادق ـ وانطلق إلي بلاد فارس حيث نزل بأصفهان ومنها تابع إلي شيراز وأعجب بفن العمارة الرائع وإحسان البناء لهذه القصور الفارسية، ومنها عاد إلي بغداد ودوَّن ما رآه من عظم قدرها ورفعة أهلها وعلماؤها وقصورها وفخامة مساجدها وما بقي من إرثها الثقافي عقب اجتياح المغول لها عام 1258م، ثم طاف بأنحاء العراق بطول النهرين حتى وصل إلي جبال طوروس في الشمال ولامس حدود الأناضول، ثم عاد إلي بغداد وزار قبر الإمام “ أبي حنفية النعمان“ وانضم لقافلة أخرى قاصداً بيت الله الحرام ليحج للمرة الثانية، وكان ابن بطوطة قبل وصوله إلي مكة أصيب بمرض شديد في البطن مما جعله يطيل الإقامة بمكة لمدة تصل لسنتين حتى يتم له الشفاء وكان قد قضاها في طلب العلوم الشرعية والفقهية وبعد أن استعاد عافيته جهز راحلته في خريف عام 1330 ليخرج إلي ميناء جدة على البحر الأحمر ويركب السفينة لأول مرة ويصل إلي ميناء عدن ويتجول في أنحاء اليمن ويزور مدنها ويصفها بأحاديثه، ثم يغادرها ابن بطوطة إلي ما يعرف بدول القرن الأفريقي حيث أخذ يتنقل بينها حيث وصل إلي الصومال عام 1331 ونزل بمدينة ”زيلع“ ثم مقديشيو ونزل بمدينة مومباسا إلي أن وصل مدينة ”كيلوا“ تنزانيا وأثنى عليها وعلى جمال ورقي مبانيها ونظام تخطيطها وحسن كرم وضيافة حاكمها “ الحسن بن سليمان سايل“ .
كانت مجتمعات شرق أفريقيا آنذاك هي مجتمعات مزدهرة مليئة بالخيرات والثروات ومستقرة داخلياً وتنشط بها التجارة البحرية، وبعدها ركب ابن بطوطة البحر واتجه إلي عمان حيث كانت جزيرة زنجبار تابعة للدولة العمانية ومنها زار مدن الخليج الواحدة تلو الأخرى ، حتى طفق عائداً إلي مكة ليحج للمرة الثالثة، وهناك يلتقي بسلطان دلهي ”محمد بن توغلوك“ فطلب منه ترجمان يرافقه إلي بيزنطة في الشمال .
رحلته إلي بيزنطة
قصد ابن بطوطة الشمال حيث ميناء اللاذقية وركب البحر باتجاه شبه جزيرة القرم حيث البحر الأسود، وطاف بعدة مدن ساحلية ووصل المجر في الشمال وبلاد البلغار وبعدها نزل إلي مدينة القسطنطينية وألتقى خلالها بالإمبراطور اليوناني ”باليو ليقيوس الثالث“ وزار كاتدرائية صوفيا وذلك عام 1334 م … ثم طفق عائداً إلي مدينة ”استراخان“ وأثنى جزيلاً على سلطانها محمد اوزبك ، ثم دار حول بحر قزوين قاصداً الهند.
رحلته إلي الهند
في رحلته إلي الهند مر ابن بطوطة على مدينة ”سمر قند“ وكانت قبلة التجار والحجاج والمسافرين وكانت مدينة غنية الموارد وعامرة بالتجار طيبة السكنى، ثم نزل إلي كابول ومنها إلي دلهي ليلتقي بسلطانها ”محمد بن توغلوك“ مرة أخرى ليعينه قاضياً على دلهي، مكث ابن بطوطة في الهند لعشر سنوات وقد طابت إقامته، وأخذ يتنقل بين مدنها وما جذبه فيها هو ذلك التنوع الثقافي الغني لهذا البلد والغرائب التي شاهدها والأساطير التي سمعها، ثم بعدها يخرج في وفد سفراء إلي الصين ويزور مدينة ”كاتشينغو“ ذكرها باسم مدينة “ زيتون“ عام 1346م، وكاد أن يهلك في هذه الرحلة مرتين إذ تعرض للسرقة في مدينة كالكوت ولم يحزن ابن بطوطة على ضياع أمواله ومدخراته بل حزن على ضياع مدوناته ومذكراته .
رحلة العودة
وبعد عودته من الصين مر ابن بطوطة على الهند مرور الكرام، ومنها غادر إلي سيرلانكا وكاد أن يهلك بعد هبوب عاصفة بحرية شديدة أطاحت بالسفينة ، لكن ابن بطوطة قاوم ومن معه حتى وصلوا جزر سومطرة وجزر المالديف، ثم عبروا مضيق هرمز وشبه الجزيرة العربية ومصر ليواصل طريقه إلي بلاد المغرب الأقصى ليصلها عام 1349م .
رحالة لا يهدأ
فوجئ ابن بطوطة بوفاة والديه بعد غياب دام لأربعة وعشرين عاماً، لم يمكث في البلاد سوى عاماً واحداً واتجه صوب مدينة ”فاس“ ومنها عبر مضيق جبل طارق إلي بلاد الأندلس، وظل يتجول في جنوبها حتى وصل غرناطة ثم عاد إلي بلاده، ولم تدم إقامته حتى شد الرحال مرة أخرى إلي مجاهل أفريقيا حيث زار غرب السودان وتمبكتو وغيرها في رحلة دامت لسنتين … ثم يستقر به الحال في مراكش ومنها يعود إلي مدينته ”طنجة“ .
كتاب لا يقدر بثمن
يبدأ ابن بطوطة في سرد أسفاره ورحلاته على عوام الناس، حينها ذاع صيته حتى استدعاه السلطان ”أبو عنان بن فارس المريني“ وطلب من كاتب الديوان الملكي ”محمد ابن جزي الكلبي“ تدوين ما يرويه ابن بطوطة، وظل ابن بطوطة يروي الغرائب والعجائب وما شاهده في رحلاته وأسفاره وابن جزي يدون حتى سُمِي الكتاب “ تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.
توفي ابن بطوطة عام 1377م عن عمر يناهز 73 عاماً ، وقد ترك إرثاً ثقافياً ظل ملهماً لهواة الرحلات لعقودٍ مديدة، بعد رحلة سفر طويلة استغرقت منه أكثر من 27 عاماً.