تمتاز اللغة بأنها الوسيلة المعبرة عن الإنسان وتصوره عن الكون والقادرة على إنجاح تواصله وتفاعله، وهي كذلك القادرة على استبطان نفسها والتحدث عن نظامها؛ كما أنها المعبرة عن جملة من العلوم الإنسانية النظرية والتطبيقية، وهي متأثرة بكيفية أو بأخرى بتلك العلوم، وقد تبين للمشتغلين باللغة وبتلك العلوم ما بين اللغة وتلك العلوم من صلة قوية نشأت في إطارها علوم مشتركة، ومن تلك العلوم ما هو قديم مصاحب لنشأة البحث اللغوي مثل علم التاريخ وعلم الجغرافيا، فكان لدينا علم اللغة التاريخي وعلم اللغة الجغرافي؛ إذ يمكن الاستعانة بالتاريخ في تحديد نشأة الظواهر اللغوية وتطورها، والاستعانة على إنجاز معجم تاريخي، وأما الجغرافيا فيمكن أن تعين في تحديد البيئات اللغوية المختلفة ورسم خرائط لانتشار الظواهر اللغوية. ومن هذه العلوم ما هو أحدث من ذلك، فمنها ما يتناول اللغة بصفتها ظاهرة اجتماعية مؤثرة في المجتمع ومتأثرة به، فكان لدينا علم اللغة الاجتماعي أو علم الاجتماع اللغوي، وهو علم يعالج الكفايات الاجتماعية لمستعملي اللغة ومتعلميها ويكشف عن التغيرات الاجتماعية بين الأجيال وأثر التربية الاجتماعية في اكتساب تلك الكفايات أو فقدانها بسبب تفكك أسريّ أو مؤثرات خارجية أثرت في البنية الاجتماعية، ومن هذه العلوم ما له علاقة بالتركيب النفسي للإنسان والقدرات الذهنية المتعلقة بكيفيات اختياره من متاح معجمي، وهو اختيار يختلف به كل إنسان عن غيره انطلاقًا من أحواله النفسية، ومن هنا كان علم اللغة النفسي وعلم النفس اللغوي، وربما توسع الأمر ليشمل علومًا بحتة كالأحياء التي نشأ عنها علم اللغة الأحيائي الذي يناقش الملكة الفكرية المتعلقة بحدث وراثي يقدم صيغًا هائلة للتعبير عن الفكر، وتفسر القدرات الإنسانية على التشكيل الصوتي المعتمد على تهيئ أحيائي متفوق؛ فالآليات الحاكمة للتعلم والتعليم معتمدة على أعضاء دماغية معقدة، ويظهر الخلل في ذلك في أشخاص فقدوا، دون أن يشعر من حولهم، تلك الأعضاء فتُوُهِّم أنهم متخلفون أو أغبياء؛ ولكنهم في الحقيقة مرضى. ومن العلوم المتعلقة باللغة تأثرًا وتأثيرًا الإعلام بوسائله المختلفة التقليدية والحديثة، وأما التقنية الحاسوبية وبرمجياتها وما تلا ذلك من وسائل الاتصال والعنكبية فهي مجالات واسعة عصفت بالطرق القديمة لتلقي اللغة وتعلمها وتعليمها، واختصرت بوسائلها المذهلة مراحل هائلة كانت تأخذ من أصحابها سنوات طوالا؛ ولكن التقنية المتسارعة في تطورها تخدم من يحسن استعمالها والاستفادة منها. وتظل اللغة أنى جئتها مفتاح كل علم، فالرياضيات وإن كانت رموزها غير لفظية هي لغوية لأنها نتاج فكر منه تبدأ وإليه تنتهي فليس يمكن التفكير إلا باللغة وإنما هذه الرموز اختصار لما يطول لو أريد بسطه بألفاظ لغوية، وأما الحواسيب فعملها معتمد في تطبيقاته على لغة حاسوبية تقترب أو تبتعد من صفات اللغة الطبيعية ولكنها آخر الأمر لغة خاصة. ومن هنا نجد أن بين ما يسمى العلوم الإنسانية التي على سنامه تعلم اللغة والعلوم التطبيقية من العلاقة ما يضع كل تلك العلوم على صعيد متصل، فلا يغني تعلم بعضها عن بعض على الرغم من مباشرة منافع بعضها الناس وتواري منافع أخرى، فتلك العلوم كأعضاء الجسد الواحد منها ظاهر ومنها باطن؛ ولكنها متضافرة في الأداء.