تُعدُّ الكلِمَةُ وَحْدَةً لُغويّةً مُؤَلَّفَةً من سِلْسِلةٍ من الأصواتِ المتّصِلَةِ، لَها بِدايةٌ ونِهايةٌ، ولها وظيفةٌ تركيبيّةٌ، وتدلُّ عَلى مَعْنىً في ذاتِها (1). ويدورُ المُعْجَمُ حولَ الكلمةِ إيضاحًا وشرْحًا، ليجْلُوَ المعنى المعجميَّ (2)؛ لأنّ مدارَ المَعاجِمِ على كَشفِ مَعاني الكَلِماتِ، التي تدورُ معها في الاسْتِعْمالاتِ المُخْتلِفةِ. ولا شكَّ أنّ المَعْنى المُعْجميَّ معنى لُغويٌّ، لأنّه قابلٌ لأن يُعَرَّفَ بِه في المداخلِ المعجميّةِ، وخاضِعٌ لمقاييسِ الشّرحِ اللّغويّ، ولكنّه، قبلَ ذلكَ، مَعْنىً ذو طابعٍ اجتماعيٍّ تَداوُلِيٍّ؛ لأنّه المعنى الذي يفهمُه الفردُ في مُجْتمعِه من ألفاظِ لغتِه، و يُوافقُه عَلى ذلِكَ بَقيّةُ الأفْرادِ .
لكنّ هذه الكَلِمَةَ كانَت تعدُّ نَواةَ المُعْجَمِ، بَل نَواةَ اللّغةِ كلِّها، ووحدتَها الأساسَ، وبُنيَت مَعاجمُ الألفاظِ على هذا المَنهجِ منذُ القَديم، غيرَ أنّه لا يَخْفى أنّ هذه الألفاظَ لَيست مَحْدودةَ المَعاني حدًّا قاطِعًا في كلِّ لِسانٍ، وليست الجملُ المركَّبةُ من تلك الألفاظِ بمَحدودةِ المَعاني والأساليبِ والوُجوه، بينَما بَنَت المَعاجمُ العربيّةُ مَنهجَها في ترتيبِ الموادّ على ترتيب الألفاظِ ترتيباً مخصوصاً، واعتمَدَت طريقةً معيّنةً في التّرتيب، هي اعتمادُ نَواةِ الكلمةِ المُفرَدَةِ، فترسَّبَ التأليفُ المعجميّ على هذا النّهجِ، وغَدا الباحثونَ يسترشِدونَ بِه في البَحثِ عن دلالات الكلماتِ.

* والحقيقةُ أنّه لا يَنْبَغي أن يَنحصرَ التأليفُ المعجميّ العربيّ في الصّناعَة المعجميّة المَعروفَة، وما بُنيَت عليه المَعاجمُ من ترتيبِ الموادّ اللغويّة والكلماتِ وفقَ منهجِ نواةِ الكلمةِ المُفرَدَة، في تحديد المَداخلِ المعجميّة، ولكنّ التأليفَ المعجميَّ العربيّ يُمكن أن يُتصوَّرَ فيما هو أوسعُ من ذلكَ، فالمصنّفاتُ والكتبُ اللغويّةُ والرّسائلُ وغيرُها من مصادرِ اللغةِ ويُمكنُ أن نعُدَّها أصنافاً مخصوصةً من المعاجم تُلتَمَسُ فيها اللُّغَةُ، لأنّها لم تكتفِ بعَرْضِ الكَلماتِ وفقَ ترتيبٍ صوتيّ صرفيّ أو ترتيب هجائيّ أو أيّ ضربٍ من ضُروبِ التّرتيبِ، بل جاوَزَت ذلكَ إلى حَشدِ المادّةِ اللغويّة الفصيحَةِ التي اتُّخِذَت فيما بعدُ أساساً للاستدلالِ على القَواعدِ النّحويّة والصّرفيّة ومُعتَمَداً في بناء المَعاجمِ الصّناعيّةِ ومَصدراً للأقيسَة الأدبيّةِ والنّقديّة ومرجعاً لأخبارِ العربِ وأيامهم وأنسابهم وأحوال الشعراءِ والفُصَحاء.

* أمّا الذي يَعْنينا من هذه المَوادِّ اللغويّةِ الغَزيرَةِ المَعروضَةِ في كُتب اللغة ذواتِ الأنواعِ والأقسامِ والفُنونِ، التي ظلّت في مُتَناوَل الدّارسينَ، يستخرجونَ منها نظراتٍ وأفكاراً ويستنبطونَ منها خصائصَ لغويّةً وأدبيةً ونقديّةً، الذي يَعنينا منها في هذا البحثِ الموجَز، فهو أن نرصدَ منها ظَواهرَها اللّغويّةَ بمُقاربةٍ دلاليّةٍ مَعروفةٍ، هي نظريّةُ الحقول الدلالية(3)، وهي نظريّةٌ تُفيدُ أنّ للكلمةِ علاقةً بكلماتٍ أخرى تُشاركُها جزءاً من الدّلالَةِ، وأنّ البحثَ عن معنى الكلمةِ يَعتمدُ على استقراءِ الكلماتِ التي تُشاطرُها المَعْنى أو جَوانبَ منه، ويقتضي شَرحُ الكلمةِ الوافي وتعريفُها الكافي الرّجوعَ إلى الحقلِ العامّ الذي يَفتَحُ أمامَ الباحثِ أحيازاً دلاليّةً أوسَعُ من تلك التي يُتيحُها التّعريفُ المفرَدُ المجرّدُ. ويَعْني هذا الرّصدُ لعلاقةِ الكلمةِ بالكَلماتِ المُشاطِرَة، أنّ مُراعاةَ السّياقِ شرطٌ في اعتمادِ الحَقْلِ الدّلاليّ للكلمَة، فالكلماتُ المُترابطةُ دلاليّاً تؤلِّفُ ميدانَ التّعريفِ المعجميّ وتُخرجُ اللفظَ عن عزلته المعجميّة إلى نسيجٍ دلاليّ يكشفُ أبعادَها.

وتأتي أهميةُ اعتمادِ فكرةِ الحُقول الدّلاليّة من ضَرورَة مُراعاةِ بيئةِ الكلمَة وعَدَم الاقتصارِ على ذاتِ المَعْنى فيها؛ فالاعتمادُ على بيئةِ الكلمَة يبلُغُ بالباحثِ ومُستعمِلِ المُعجَم بهذا المنهَح، إلى معرفَة الدّلالات المختلفَة للكلمَة الواحدَة، والدّلالات المتقاربَة التي تشتركُ فيها كلماتٌ أخرى، فالبيئةُ اللغويّةُ الحاضنةُ للكلمَة، تُعطينا عن الكلمةِ الدّقّةَ الدّلاليّةَ، وما يدخلُ في دلالةِ الكلمةِ من دلالاتٍ أخرى لازمةٍ أو مُضَمَّنَة أو مُتّصلةٍ بوجهٍ من وُجوه الاتّصالِ. وليسَت البيئةُ الدّلاليّةُ التي تُتَداولُ فيها الكلماتُ المعجميّةُ سِوى النّصوص الأدبيّة واللّغويّة؛ ففي بُطونِ النصوصِ والمًصادرِ تُلتمَسُ دلالاتُ الكلماتِ قبلَ أن تُلتمَسَ في المَعاجم الصّناعيّة