لا يملك كل ذي لُب ونهية، إلا أن يذعن لما حباكم به الله ـ تقدس وعزّ ـ من علوم ومعارف، وظهور على جم من الفنون غفير.
وليس أبعد في الخطأ، ولا أقبح في الأحدوثة، من مطاولة من استولى على كل ما هو به محقق، متدسِّسٌ، نقاب.
وإن المرء ـ مهما أوتي من لدد، وجلد على الخوض في مضايق العقول، لاجرم يرتد إليه "نظره" حسيرا دون هذا القاموس المحيط، والمَعلمة السيّارة، وما قبل وما بعد..
لكن؛ هي خطرات ووساوس، يُحمّ بها المطالع، ثم يغلي، ثم ينتفض (يعلق)، وللقارئ من نفثاته ـ بأخرة ـ ما يشظّى في وجهه وما يطّاير.
أما بعد؛ فهما سؤلان اثنان، ليس غير، أحشّي بهما على قولكم: "ولا غرابة على العقل النحويّ الجبّار أن يكون له ذلك الأفق الواسع، المبني على المنطق، والتأمل، والذوق":
أولهما: ألستم ترون أن تقحم "المنطق" على "النحو" من حيث هو صناعة؛ إن هو إلا مجاوزة عن سَنن العرب في جاري كلامها، وافتئات على فطرهم، ومتابعة للعلوج والزوافيل، الذين أفسد علينا سكّاكيهم وتفتازانيهم "البلاغة" ساعة تسوروا عليها بـ"منطق" مدخول، جاف، جاس، صُلب، صلد، هو بـ"التوافيق والتباديل" و"اللوغرتمات" أشبه؛ حتى قال خاتمة الحفاظ، الجلال الأسيوطي ـ رحمه الله ـ في "حسن المحاضرة"، متمدّحا: إنه (بهر في البلاغة ومهر، على طريقة العرب لا العجم)، أو كلاما هذا معناه، والنقل من الحافظة، لأجل ذلك؛ لم أقم بتوثيقه، أو نقله بحروفه.
هذا؛ وقد تطلبت هذا (الفن) سنوات عجافا ذوات عدد، حتى تقرّحت الجفون، بعد أن أسهرت فيه ليلي، بغية الظهور على الأقران، في بقعة لم يطرق مسامع ومباصر كبار المشتغلين بالعلم فيها اسم ورسم "علم الوضع"، ومبناه على ما عرفت.
ثم رفضت هذه "التقاسيم والأنواع" المقول عليها "منطق"، رفض السقب غرسه، والرأل تريكته ـ على تعبير شيخ المعرّة ـ رحمه الله ـ فما لان القلم بعد حران، ولا انقادت الألفاظ الشريفة، والمعاني الفخام الضخام، إلا بعد "كسر وثن رتـَن".
وما نبأ (المجلس)، ولا أقول (المناظرة)، الذي تولج من خلاله متى بن يونس، لحظة سكّ مسامعه أبو سعيد السّيرافي ـ رحمه الله ـ بالحجج القواصم، تولّج ساح التاريخ، واقتعد فيه مكانا.. ما نبأه عنك ببعيد.
وليس يعزب عن طـُلعة منقر، مثلكم، المعايب التي أسقط بها التقي ابن تيمية ـ رحمه الله ـ صرح رسطاليس، فجعله هباء منثورا، بعد أن أتى على بنيانه من القواعد، فصار هشيما، تذروه الرياح، كأن لك يكن.
وإني لا أشك ـ قِيد شعرة ـ أن فشوّ القضايا والأقيسة المنطقية، في "أضواء" الحبر، بقيّة السلف، محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ وقف حجابا حاجزا، وحَددا مانعا، دون (تمام) الاستفادة منه، ولا ينبئك مثل خبير.
لذلك؛ لشدّ ما رغبت في أن تخلو كتب ابن هشام النحوي وغيره ـ رحم الله الجميع ـ من مثل قوله (واستعمال الأجناس البعيدة في الحدود مَعيب عند اهل النظر)، مرّة أخرى، (أو كلاما هذا معناه).. هذه واحدة.
أما ثانيهما: فإن الذوق لا يصلح ـ ضربة لازب ـ جعله مهيمنا على "العقل النحوي"، قاضيا عليه، لا معقّب لحكمه؛ لأن الذّوق أمر وَجْديّ، لازم غير متعد، وليس شرِكة بين الورى، أو مطّردا منعكسا، يحتكم اليه الخلائق حين يختلفون، وعن (رسمه) و(فصله) يصدرون، بل هو بالعَرَض ألصق، والعرض لا يبقى زمانين.. هذه ثانية.
أمّا التأمل؛ فنعم ونعمى عين.
ولأستاذنا وشيخنا الدّرّاكة، ذي الحافظة الدّبقة، والقلم المعن، العُتبى حتى يرضى.. وإنك ـ حماك الله ـ ملكت؛ فأسجح.