ما هو سبب اختلاف الحقب التاريخية بين علماء التاريخ المسلمين وعلماء التاريخ الغربيين؟ وما الذي نتج عن ذلك الاختلاف؟
إن الدارس للتاريخ سواء بشكل تخصصي، أو من باب حب الاستطلاع، يقف من حين لآخر على بعض الاختلافات بين المؤرخين في تحديد الحقب والعصور التاريخية، ويلفيهم غير متفقين على تعيين الأحداث المفصلية في تاريخ البشرية، وخاصة بين علماء التاريخ المسلمين وعلماء التاريخ الغربيين، فما هو سبب اختلاف الحقب التاريخية بين علماء التاريخ المسلمين وعلماء التاريخ الغربيين؟ وما الذي نتج عن ذلك الاختلاف؟
سبق أن أشرنا في مقال سابق عن الحقب الجيولوجية والحقب التاريخية إلى أن علم التاريخ هو فرع عن العلوم الإنسانية، تلك العلوم النسبية، المفتقرة إلى الموضوعية والتجرد من الذاتية، وذلك ما يخلق صعوبة في وضع حقب تاريخية موحدة لتاريخ ما بعد التدوين بشكل عام، ولمرحلة ما بعد بعثة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بشكل خاص، حيث يعتمد علماء التاريخ الغربيون سلما تاريخيا خاصا ينطلق من التاريخ الأروبي تحديدا، ويجعل منه مدار تاريخ البشرية، ذلك الوضع الذي لا يرضاه علماء التاريخ المسلمون، ويحاولون وضع تحقيب تاريخي خاص بهم، يجعل من الأحداث التي عاشها العالم الإسلامي منطلقا في تحديد وتعيين الحقب التاريخية.
ولكن مشكلات التحقيب التاريخي لا تنحصر في هذه النقطة، بل إن هناك بعدا آخر يعتبر حجر عثرة في سبيل وضع تحقيب تاريخي موحد شامل وسليم، إنه بعد الأنماط والمنظورات التاريخية، فأي بعد وأي منظور سنعتمده في التحقيب التاريخي، هل ننطلق من منظور سياسي أم اقتصادي أم اجتماعي، أم نركن إلى بعد العلوم والآداب والفنون، وهاته الأبعاد نفسها تخلق لنا مشكلا عويصا جدا، وهو أن هاته الأنواع من المجالات والفنون لم تسر ولم تتقدم بنفس الوتيرة وفي ذات الوقت في كل ربوع المعمورة، بل إنها كانت في بعض المناطق منتشرة ومتطورة، وفي الوقت نفسه كانت في مناطق أخرى خاملة مهجورة، ففي الآونة التي كانت فيها الحضارة المصرية حضارة ”مزدهرة“، لم يكن للأمم الأروبية ”شأن يذكر“، ولما بلغ المسلمون ”ذروة التقدم والحضارة“، كانت أروبا ”غارقة في بحر من الظلمات“.
هذا من جانب، وأما من جانب آخر فإن المصطلحات والجمل التي نصف بها عصرا أو حقبة من حقب التاريخ هي مصطلحات غير دقيقة، فما معنى قولنا -مثلا – حضارة مزدهرة؟ وما المعيار الذي نعرف بها ذروة الحضارة والتقدم؟
تلك حقا إشكالات عويصة ومسائل معقدة، يعمل الباحثون في علم التاريخ على إيجاد حل لها، ومحاولة وضع تحقيب تاريخي موحد لتاريخ ما بعد التدوين، وإلى ذلك الحين، تعالوا بنا نلقي نظرة على التحقيب التاريخي الشائع في أوساط المؤرخين، على الرغم من كل الملاحظات والتعليقات التي تحيط به.
التحقيب التاريخي بالنسبة للعلماء الغربيين:
يقسم علماء التاريخ الغربيون تاريخ ما بعد التدوين إلى ثلاثة عصور، وقد تندرج تحد بعض تلك العصور فترات تاريخية معينة، وذلك نظرا إلى وقوع بعض الأحداث المهمة، ولكن في ظل ظرف تاريخي عام.
1. العصر القديم:
ويبدأ العصر القديم مع ظهور الكتابة في بلاد ما بين النهرين حوالي 3500 سنة قبل الميلاد، ونهاية العصر الحديدي، ويعتبر ظهور الكتابة حدثا مفصليا في تاريخ البشرية؛ لذلك جعل علامة لنهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية العصور التاريخية، أو عصور ما بعد التدوين.
وتم تحديد 3500 عام قبل الميلاد تاريخا لظهور الكتابة باعتبار أن أقدم الوثائق والأحجار المنقوش عليها كتابات، والموجودت حتى الآن، لا يتجاوز عمرها ذلك التاريخ.
إلا أن المؤرخين الغربيين اختلفوا بعد ذلك في تحديد تاريخ نهاية العصور القديمة وبداية العصور الوسطى، فمنهم من يجعل حدث اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للديانة المسيحية حولي 313 للميلاد، تاريخا لنهاية العصور القديمة، لكون ذلك الحدث شكل منعطفا حاسما في تاريخ المسيحية، ومهد لها لكي تكون الدين الرسمي لكبريات الدول في أروبا بعد ذلك التاريخ.
بينما يذهب مؤرخون آخرون إلى اعتبار سقوط روما عام 476 ميلاديا، على يد القبائل الجرمانية المغيرة، وتحول روما من عاصمة للحضارة والفلسفة إلى مدينة تحت حكم المقاتليين الجرمانيين، حدثا مفصليا، يعلن عن بداية عهد جديد، هو عهد العصور الوسطى، والتي عم أروبا خلالها ليل دماس.
2. العصور الوسطى:
تحديد بداية هاته العصور اختلف فيها، كما مر معنا عند الحديث عن تحديد تاريخ نهاية العصور القديمة، والذي يميز هاته العصور، بالنسبة للمؤرخين الغربيين، هو ا شهده العالم الغربي حلال تلك الفترة من تخلف واضمحلال علمي وحضاري، وضمور فكري ومعرفي، واندراس العلوم القديمة وكحمة اليونان الأوائل، وشاعت فيها أنظمة مجحفة، وأمسكت الكنيسة بزمام الأمور.
ومع دنو القرن الخامس عشر الميلادي بدأت بوادر عصر جديد في أروبا، خاصة مع الكشوفات الجغرافية للقارة الأمريكية، وللطرق البحرية المفضية إلى شبه القارة الهندية، وظهور بوادر عصر النهضة، وحركة مارتن لوثر ”التنويرية“، ويجعل بعضهم من حدث سقوط القسطنطينية بيد المسلمين 1435م للميلاد، حدثا مودنا بنهاية العصور الوسطى، وتحرك الأمم الأروبية لاستعادة ملكها وسلطانها، وخاصة مع تزامن سقوط القسطنطينية بسلبهم الأندلس من يد المسلمين.
بينما يجعل بعض مؤرخيهم من اختراع الطابعة عام 1450م الحدث الأبرز، والمنعطف الذي يبدأ عنده عهد جديد، إنه العصر الحديث.
3. العصر الحديث:
العصر الحديث بالنسبة للمؤرخين الغربيين هو ذلك العصر الذي يبتدأ من منتصف أو أوائل القرن الخمس عشر الميلادي، ويمتد إلى اللحظة الراهنة، ولقد دخلت أروبا في هذا العصر منعطفا جديدا، وسلكت طريقها نحو قمة المدنية والتحضر، وبدأت الكشوف العلمية، والحركة الفنية، وظهرت المدارس الفلسفية، وازدهرت أروبا اقتصاديا بفعل الثروات التي تم جلبها من العلم الجديد؛ القارة الأمريكية، وتلى ذلك مجموعة من التطورات، حتى بداية الثورة الصناعية، وانطلاق التوسع الإمبريالي، ثم الحربين العالميتين الأولى والثانية، مرورا بالثورة التقنية واكتشاف الفضاء.
الحقب التاريخية بالنسبة لعلماء التاريخ المسلمين:
لا يختلف علماء التاريخ المسلمين مع المؤرخين الغربيين في تحديد بداية العصور القديمة، وجعل تاريخ ظهور الكتابة محطة لانتهاء عصىر ما قبل التاريخ وبداية العصور التاريخية، ولكنهم يختلفون فيما بعد ذلك من مراحل وأحداث.
• العصور الوسطى في التأريخ الإسلامي:
يبدأ العصر الوسيط في التأريخ الإسلامي ببعثة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، أو عام هجرته عند البعض الآخر، وذلك سنة 622م، وتعد الهجرة النبوية الشريفة حدثا فارقا في التأريخ الإسلامي بين العصور القديمة والعصر الوسيط؛ لكونها شكلت منعطفا بارزا في تاريخ البشرية، ووضعت النواة الأولى للحضارة الإسلامية، والتي ستسود رقعة واسعة من العالم المعروف في تلك الآونة، وستنقل البشرية من ظلمات الجهل والاستعباد إلى رحابة الإيمان ونور العلم والمعرفة، وسنين قليلة بعد تلك الهجرة المباركة، ظهرت أزهى العواصم في تلك العصور: دمشق، وبغداد، والقاهرة، والزيتونة، وغرناطة، وقرطبة، وغيرها من الحواضر الإسلامية التي كانت مهد العلوم ومحج الراغبين في التلعم والتنور من كل الأمم، واسمرت الأمة الإسلامية تتربع على قمة الحضارة الإنسانية ردحا من الزمن ناهز العشرة قرون، مع أن عوامل الضعف كانت قد بدأت بالانتشار في جسد الأمة، إلا أنها قاومت واستماتت في الدفاع عن ريادتها لأمم الأرض.
• العصر الحديث:
وأما العصر الحديث بالنسبة لأمة الإسلام فلم تكن بداياته تبشر بخير، حيث يعد بعض المؤرخين سقوط غرناطة، آخر معقل من معاقل المسلمين بالأندلس، بيد المسيحيين سنة 1492م، إعلانا عن نهاية ريادة الأمة الإسلامية للعالم، وبداية الضعف والتقهقر، ذلك الضعف الذي يرجع بعض الباحثين أسبابه إلى الفرقة والاختلاف، وانتشار البدع والخرافات، واستحكام أمر الطرقية والتعصب المذهبي، وإغلاق باب الاجتهاد، وذيوع ثقافة التواكل والتسليم بالأمر الواقع، بدعوى أن محاولة إصلاح الأوضاع القائمة هو عدم رضا بقضاء الله وقدره!
وفي هذا العصر بدأت الحملات الأروبية/الصليبية على العلام الإسلامي من جديد، واحتل نابليون مصر، ”ودخلت الخيل الأزهر”، وتوالى سقوط الدول المسلمة بيد المحتلين، حتى احتل العامل الإسلامية عن رمته تقريبا.
ومع ذلك لم يستكن المسلمون، بل كانت تلك الحملات صفعة أيقظتهم من غفلتهم، ونودي على الجهاد من جديد، وبدأت المقاومة من أجل تحرير البلاد الإسلامية من يد الغاصبين، وتمكن المسلمون من إخراج المحتلين من جل البلاد التي احتلت، وواكب ذلك وتبعه مجموعة من الحركات والدعوات الإصلاحية، آتت بعض أكلها، ثم دخلنا مرحلة جديدة بعد القومية العربية، هي مرحلة الصحوة الإسلامية، تلك الصحوة التي حققت جملة من الأهداف والمرامي، في مقابل الكثير من التضحيات.
ولم يسكن العالم الإسلامية عند هذا الحد، بل ومع نهاية القرن العشري ومستهل القرن الحادي والعشرين، شهد العالم الإسلامي مجموعة من الهجمات المتتالية: حرب أفغانستان، ومجازر البوصنة والهرسك، والتطهير العرقي ضد مسلمي بورما، وحرب الخليج الأولى، ثم الحرب على العراق، وانتفاضة الأقصى الأولى والثانية، والحرب على غراة عام 2007.
هل انتهت القصة المأساوية عند هذا الحد؟ لا، بل بدأ فصل جديد من الفصول الدموية في تاريخ الأمة الإسلامية في العصر الحديث، وذلك نظرا لما شهدته الدول العربية بعد ما سمي بالربيع العربي من حروب ومآسية مؤلمة.
ترى، إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ وكم علينا أن نقدم من دماء بعد حتى نستعيد عافيتنا، ونلحق بركب الحضارة من جديد؟