من هم أشهر المؤرخين في العصور القديمة؟ وما هي أهم مؤلفاتهم؟ وما الذي وصلنا منها؟
إن جزءا كبيرا من التاريخ الذي نعرفه عن الأمم الغابرة أخذناه عن تلك الأمم نفسها، واطلعنا عليه في أعمال مؤرخيهم وعلمائهم، ووصلنا عبر مخطوطات تعد من أنفس ما ورثته البشرية عن الأمم السابقة، فمن هم أشهر المؤرخين في العصور القديمة؟ وما هي أهم مؤلفاتهم؟ وما الذي وصلنا منها؟
كتابة التاريخ، وتدوين الأحداث، وتسجيل مسار البشرية على هاته الأرض ليس أمرا حديثا أو شأنا يقتصر على العصور المتأخرة، بل ومنذ أن وجد الإنسان على هاته الأرض وهو يسعى إلى أن يبقي آثارا تدل عليه وعلامات تحكي تاريخه، وكأنه يريد أن يخلد ذكره ويطيل عمره من خلال ذكر تاريخه والإبقاء على إنجازاته، وهكذا اتجه الإنسان الأول إلى الصخور الصلبة يحفر عليها بمعاويله البدائية أخاديد ترسم مسار حياته، وأشكالا ورموزا تحكي تاريخه وأمجاده في صيد الغزلان.
وسنحاول في مقالنا هذا التعرف على بعض المؤرخين من العصور القديمة، وخاصة مؤرخي منطقة البحر الأبيض المتوسط، وذلك من خلال الوقوف على بعض أعمالهم ومؤلفاتهم في التاريخ، ومعرفة الأساليب التي كانوا يتبعونها، والمواضيع التي كانوا يعنون بها، وسنتحدث تحديدا عن ثلاثة مؤرخين هم: هيرودت، وتوكيديدس، ثم بوليبيوس.
1. هيرودوت:
هدية الإلهة هيرا، ذلك هو معنى اسم هيرودوت، ولكنه لم يكن بالفعل هدية معبودة اليونانيين هيرا، بل كان هدية لعلم التاريخ، حيث اعتبر هيرودوت – بفضل أعماله وأسلوبه، وما سجله من أحداثا تاريخية هامة – أبا التاريخ، ولم يطلق لقب ”أبو التاريخ“ على أحد من المؤرخين قبله ولا بعده.
ولد هيرودوت في هاليكارناسوس، ويحدد بعض المؤرخين سنة ولادته على أنها عام 484 قبل الميلاد، وعلى كل حال فإنه عاش في الفترة ما بين 490 و 425 قبل الميلاد.
كان هيرودوت شغوفا بالسفر والترحال، ولقد زار معظم الدول التي كانت معروفة في أيامه، ومن بين المناطق التي زارها وسافر إليها: جزر أرخبيل اليونان، وزار مصر وبلاد الرافدين، وفلسطين وفنيقيا، والحواف الجنوبية لروسيا، وجل بلدان الساحل الشمالي لإفريقيا، ودامت أسفاره زهاء سبعة عشر عاما، ولقبه بعض المحْدثين بماركوبولو العصور القديمة، وذلك لكثرة أسفاره، وتجوله بين بقاع المعمورة المعروفة في أيامه.
كتاب هيرودوت الذي وصلنا كاملا هو تاريخه الهام الذي جمع فيه معلومات جغرافية وتاريخية ودينية وقصصية عن الأمم التي زارها أو التي بلغته أخبارها، ولقد اشتهر كتاته بدقة وجمالية وصفه للمناظر الطبيعية والتضاريس الجغرافية، وبين أنه سيعتمد فيما لم يزره من بلاد على أخبار الكهنة وحدهم دون غيرهم، وأسمى كتابه هذا ”تمحيص الأخبار“ أو ”إثبات الأخبار“، ويعرف اليوم بـ ”تاريخ هيرودوت”، وقسمه إلى تسعة أجزاء، وسمى كل جزء باسم إلهة من الآلهة القديمة، مثل كليو، وهي ربة التاريخ، وأورانيا، وهي ربة الفلك، وهكذا دواليك.
ومعظم تاريخه يدور حول الحرب بين اليونان والفرس، وتجده إذا تحدث عن اليونان ينعتهم بأنهم متحضرون وأصحاب فكر وفلسفة وفنون، وأن الآلهة تقف في صفهم، وأن النصر غالبا ما يكون حليفا لهم، وأما إذا تعرض للحديث عن الفرس فإنه يصفهم بأنهم برابرة لا علم لهم ولا حضارة، وأنهم متوحشون، تحكمهم أهواؤهم، وتقودهم نزواتهم، وهم لذلك يرتكبون أبشع الفظائع وأشنع الجرائم في حروبهم.
وهذا الكلام لا يعكس حقيقة الأمر الواقع، ولا يعبر عن حالة الفرس، بل إنه كلام صادر عن إنسان يتعصب لقومه وعشيرته، ويحمل على الأعداء حملة لا هوادة فيها، من دون أن يلقي بالا للضوابط العلمية في كتابة التاريخ.
يعتبر هيرودوت أول مؤرخ يوناني، وأول أوروبي استخدم أسلوب النثر في الكتابة التاريخية، ويعد تاريخه من المؤلفات الهامة جدا؛ إذ يعد أول عمل تاريخي متكامل ومنتظم.
ويفصح هيرودوت عن هدفه من تأليفه هذا السفر المهم في التاريخ بقوله:
”كتبها ليبقى ذكر أفعال الرجال حيا، ومآثر الإغريق والبرابرة وأعمالهم المجيدة خالدا، ولتوثيق أسباب النزاع بينهم“.
2. توكيديدس:
توكيديدس، أو أبو التاريخ العلمي كما يصفه الكثيرون؛ لكونه اعتمد مجموعة من المعايير الصارمة في كتابة التاريخ وتسجيل أحداثه.
يعتبر توكيديدس واحدا من أبرز المؤرخين اليونانيين، عاش في الفترة ما بين 460 و 395 قبل الميلاد، له عدة أعمال، من أشهرها كتابان هما: تاريخ الحرب البلوبونزية، وكتاب الحوار المللي، ولا زال يعتبر هذا الأخير واحدا من أرقى الأعمال في نظرية العلاقات الدولية، ويرى فيه بأن العلاقات بين الأمم مبنية على القوة لا على الحق.
وأما كتابه في التاريخ فإنه يركز بشكل كبير على تسجيل أحداث الحرب التي دارت رحاها بين اسبرطة وأثينا من بداية القرن الخامس قبل الميلاد حتى عام 411 ق.م.
ويعرف عن توكيديدس أنه يتبى في كتابة التاريخ وتسجيل الأحداث على جمع الأدلة وتحليلها انطلاقا من قانون السبب والتأثير، من دون الإشارة إلى قوى خارقة أو تدخل من الآلهة لترجيح كفة جيش على آخر أو ما شابه، بل إنه يصب جل تركيزه على تفهم الطبيعة البشرية، وشرح سلوكها وردات فعلها في أوقات الشدة والأزمات.
لقد أخذ العهد بأن يسجل أحداث الحرب البلوبونزية بكل حيثياتها، وبأدق تفاصيلها، منذ اندلاعها حتى خمودها، ويشير إلى سبب اندلاع هاته الحرب بقوله:
”ما جعل الحرب حتمية كان هو تنامي قوة أثينا، والخوف الذي سببه في اسبرطة“
ومن هنا اشتق بعض الباحثين قانون ”مصيدة توكيديدس”، والذي يفترض أن بزوغ قوة جديدة يبث الخوف في قلب القوة القديمة، مما يتسبب في نشوب حرب بين القوتين.
بدأ توكيديدس تاريخه من حيث انتهى هيرودوت، أي من نهاية الحرب ضد الفرس، فمن المنطقة التي وضعت فيها تلك الحرب أوزارها ينطلق توكيديدس ليتحدث عن الحرب بين البلوبونزيين والأثينيين، معتبرا إياها أخطر الحروب شأنا في تاريخ اليونان، وأجدرها بالرواية والتأريخ.
ويعاب على توكيديدس كونه اشتغل باريخ الجيوش والحروب، وأغفل تاريخ الحضارة اليونانية وآدابها، وأخبار فلاسفتها وأدبائها، وكيفة الحكم فيها ونوعية الدساتير التي كانت تحكمها وتسييرها، ويعاب عليه أيضا أنه أغفل دور العامل الاقتصادي في نشوب الحروب ووقوع النزاعات بين الدول والأمم، بالإضافة إلى كونه كان يختلق على ألسنة القادة الذين يؤرخ لهم خطبا بليغة عصماء، طويلة مسترسلة، تضفي على الموقف والحدث مسحة درامية تراجيدية، وتجعل القارئ يسبح في عالم من الخيال والسحر البياني، ولم يكون فعله ذلك محاولة لاختلاق الكذب على أولئك القادة، بل كان يصرح بأن تلك الخطب من نسج خياله هو، ولكنها كما يقول: تتضمن خلاصة كلامهم وخطبهم.
وهو مع ذلك كله يبقى واحدا من أشهر المؤرخين القدامى الذين لم ينساقوا وراء الخرافات والأساطير، بل التزموا منهجا علميا وأسلوبا يعتمد المنطق والتحليل العلمي لسير الأحداث وتسلسلها.
3. بوليبيوس:
بوليبيوس هو واحد من أعظم وأشهر المؤرخين في العصر الهلنستي واليوناني، عاش ما بين 203 و 122 قبل الميلاد، من أشهر كتبه صعود الإمبراطورية الرومانية، وهو العمل الذي يغطي فيه الفترة ما بين 220 و 146 ق.م.
كان بوليبيوس ذا علم غزير واطلاع واسع، وكان ملما بثقافات عصره، ومتقنا للغتين اليونانية والرومانية، ولقد ألف ثلاثة كتب، أحدها رسالة في الفنون العسكرية، وثانيها كتاب عن حياة فيلوبيمين، وأما الثالث فإنه كتاب التواريخ الضخم، والمعنون كما أشرنا سابقا بصعود الإمبراطورية الرومانية.
ولقد استند في كتابة تاريخه هذا على مصادر واسعة ومتنوعة، منها الرحلات والتجارب الشخصية، بالإضافة إلى ما اطلع عليه من كتب التاريخ، ولقد كان يهدف من عمله ذاك إلى كتابة تاريخ العالم كله، ويقصد أمم البحر الأبيض المتوسط.
ولم تصلنا من هذا الكتاب إلا خمسة أجزاء فقط، وأما الأجزاء الأخرى فلم يصلنا منها إلا بعض الاختصارات التي أنجزها المؤرخون الذين تلو بوليبيوس على تاريخه، وبعض نقولهم عنه.
ومما وصلنا من تلك الأجزاء نرى بأن بوليبيوس كان معجبا بالرومان على الرغم من كونه يونانيا، ولقد تحدث في تاريخه عن إيطاليا وجغرافيتها، وتعجب من خصوبة أراضها ووفرة الطعام بها، ثم تعرض لدستورها وأعرب عن تقديره له، ونعته بأنه أفضل دستور في العالم، ثم عرج على مختلف المراحل التي مرت بها إيطاليا عبر التاريخ، من أقدم العصور حتى أيام بوليبيوس.
ويوصف بوليبيوس بأنه ”مؤرخ المؤرخين”، وذلك لكونه يهتم ببيان طريقته ومنهجه في الكتابة بقدر ما يهتم بموضوعه ومعلوماته، ويقتنص الفرصة بين الفينة والأخرى ليتحدث عن منهجه وخطته، ويقحم بين ثنايا الكلام آراءه في السياسة والفلسفة.
وهذكا نرى بأنه قد كتب على البشرية أن تكتب تاريخها منذ القدم، وأنها كانت حريصة دائما على تخليد مآثرها والإبقاء على أمجادها، وكأنها تعوض عن طمعها الذي لا أمل في بلوغه، وهو الطمع في الخلود على هاته الأرض، بتخليد ذكرها وتاريخها، وأيا كان الدافع وراء تدوين التاريخ، فإنه يبقى شاهدا على مفارقة إنسانية عجيبة، وهي: توق الإنسان للسلام، وشغفه بالحروب!
رد مع اقتباس
