أحد ملوك الطوائف الذى استمر فى فتح البلاد ومجاهدة النصارى. فمن هو؟ ( العزيز فى زمن الأذلاء )
اشتهر ملوك الطوائف فى الأندلس بالضعف والتشرذم، والفرقة والتناحر، وإن القارئ لعهدهم يتخيل أن فترتهم كانت فترة تنازع وحروب بين بعضهم البعض، يتخللها عدوان ملوك النصارى عليهم، إلا واحد منهم استمر فى فتح البلاد، ومجاهدة الأعداء، واحترام العلماء. فمن هذا العزيز فى وقت الأذلة؟
بحلول القرن الخامس الهجري، تصدعت أركان الدولة الأموية فى الأندلس، وقامت فى كل مدينة من مدنها إمارة تتنازع مع جاراتها، و وصل الحال بملوك تلك الفترة، إلى الاستعانة بالنصارى فى الشمال، ضد إخوانهم المسلمين، وكان أكثرهم يدفعون الجزية لأولئك النصارى، إلا أمير بطليوس (ابن الأفطس)، وأمير دانية (مجاهد العامري)، الذى لم يرفض دفع الجزية فحسب، وإنما راح يجاهد النصارى، ويفتح المدن فى قلب البلدان النصرانية، ومواطنها.
إمارة دانية وتغلب مجاهد العامري عليها:
فى عصر ملوك الطوائف قامت بمدينة دانية الأندلسية، مملكة تتميز عن غيرها من ممالك الطوائف، بموقعها المنعزل، وامتداد نفوذها إلى الجزائر الشرقية، فكانت بذلك أبعد من أن تنزلق إلى معترك الحرب الأهلية، مثل سائر ممالك الطوائف، وأبعد عن عدوان مملكة قشتالة الصليبية، التى تولاها ألفونس السادس، وأخذ يحتل المدن الإسلامية، ويعتدى على الممالك الإسلامية المتفرقة.
كانت دانية مثل معظم القواعد الأندلسية الشرقية، من نصيب الفتيان العامريين، فقد تغلب عليها أبو الجيوش مجاهد بن يوسف العامري، الذى نشأ فى عهد المنصور بن أبى عامر، حيث عند اضطراب الفتن وبدء عهد ملوك الطوائف، كان مجاهد إلى جانب الزعماء العامريين، ثم سار إلى طرطوشة وملكها، ثم سار منها إلى دانية، فاستطاع إحكام سيطرته عليها، ثم وثب منها على الجزائر الشرقية، والجدير بالذكر أن مجاهدًا كان يعاونه فى حكمه فقيه أموي ورع، يدعى (أبو عبد الله المعيطي)، وهو من أشراف قرطبة وفقهائها البارزين.
فتح جزيرة سردانية:
بينما كانت دول الطوائف الأخرى، تخوض غمار المنازعات والحروب بين بعضها البعض، كان مجاهد العامري يفكر فى مشروع ضخم، ربما كان أعظم مشروع فكر فيه أمير من أمراء الطوائف، ذلك هو افتتاح جزيرة سردانية.
كان مجاهد زعيمًا قوي الشكيمة، وكان يرى أن مملكته الساحلية، تقتضى أن يكون اعتمادها فى القتال على الأساطيل لا الجيوش البرية، فجدد دار صناعة السفن، واستكثر من السفن والمعدات الحربية، واستطاع فى وقت وجيز إنشاء أسطول كبير، حتى غدت دانية أعظم مركز للأساطيل الأندلسية، وصار مجاهد يتطلع بعيدًا من جزائر الأندلس الشرقية إلى ما وراء مياهها من جزائر كبيرة غنية، والتى كان على رأسها جزيرة سردانية، التى عرفها المسلمون من قبل، فى كثير من الغزوات المتعاقبة.
وضع مجاهد خطته لغزو هذه الجزيرة الكبيرة، فحشد أسطولاً قوامه مائة وعشرين سفينه، وقوة من ألف فارس، وأقلعت السفن من دانية فى ربيع الأول عام 406هـ، وعلى الأسطول أمير البحر (أبو خروب)، وما كادت السفن ترسو على شواطئ الجزيرة، حتى شق الغزاة طريقهم إلى عمق الجزيرة، و وقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك دموية هائلة، قتل فيها عدد جم، وكان قائدهم فى مقدمة القتلى، واستطاع الفاتحون افتتاح كامل أراضى الجزيرة، وأن يسيطروا على معظم حصونها فى ربيع الثانى من نفس العام.
المسلمون فى جزيرة سردانية:
قرر مجاهد العامري البقاء فى الجزيرة، لتوطيد مركزه بها، وشرع فى بناء مدينة واسعة بها، انتقل إليها بأهله وأولاده، وقد لبث مجاهد فى سردانية عشرة أشهر، وفى خلال تلك الفترة كانت البابوية والإمارات الإيطالية المجاورة، قد اهتزت لهذا الحدث الخطير، و زاد فى سخطها من فعله مجاهد من الإغارة على شواطئ إيطاليا، واقتحام مدينة لونى فى قلب شبه الجزيرة الإيطالية، فى الحال أعلن البابا (بندكتوس الثامن) الحرب الصليبية على المسلمين، وعقد تحالفًا مع أكبر إمارتين بإيطاليا آنذاك، جنوة وبيزة، على محاربة المسلمين، وطردهم من جزيرة سردانية.
فى الفترة التى أقام بها مجاهد العامري بجزيرة سردانية، أخذ يبذل جهوده فى تحصين الجزيرة، والاستعداد لغزو الصليبيين لها، ولما قدمت الأساطيل الصليبية، استعد مجاهد للمعركة الحاسمة، ولكن تمرد المرتزقة فى أسطوله، وتوالى العواصف القاصفة، كانت عوامل فتت فى عضده، وحطمت خطط دفاعه، فلم يقو على المقاومة، وهُزم أمام السفن النصرانية هزيمة فادحة.
وهكذا تحطمت معظم سفن العامري، واستشهد كثير من جنده، وأسر العدو أهله و ولده وبناته، ولم ينج من الأسطول الضخم سوى بضع سفن، شقت به عرض البحر مسرعة، وهكذا تحطم ذلك المشروع الضخم، حيث كان أضخم من مقدرة أمير من أمراء الطوائف، وكانت الدول النصرانية كلها تتحفز لحماية تلك الجزيرة، كي تمنع انسياب الأساطيل الإسلامية إلى المياه الإيطالية، وكان فى تفوق الإمارات الإيطالية البحري، ما يكفل تحقيق هذه الغاية.
على أن غزو مجاهد الجريء لسردانية، وغاراته المتكررة بعد ذلك على الشواطئ الإيطالية، جعلت منه شخصية خيالية مروعة، وتفيض الروايات النصرانية، فى غزوات مجاهد وغاراته البحرية، وتحيطه بهالة من البطولة والورع.
وقد غزا مجاهد العامري جزيرة سردانية مرتين بعد ذلك، وقد أفاضت الروايات الإيطالية فى ذكر ذلك، يظللها دائمًا اسم مجاهد، على أنه ملك أفريقية، مما يدل على الروع الذى كان يبثه ذلك المجاهد فى ثغور البحر المتوسط الغربية.
عودة مجاهد إلى دانية:
كان غزو سردانية أعظم أعمال مجاهد العامري، وهي ألمع صفحة فى تاريخه، بيد أنه مذ عاد إلى دانية، قدر له خوض سلسلة من الحوادث والأعمال الأخرى:
كان مجاهد العامري قد ولى الفقيه أبا عبد الله المعيطي الإمارة، حتى يرجع من حملته على سردانية، ولكن أبا عبد الله لم يحفظ العهد، ولم يرع الأمانة، فاستبد بالحكم، واغتصب السلطة لنفسه، ومحا اسم مجاهد و رسومه، وكثرت مظالمه وعيثه، وابتزازه بالأموال، ومجاهرته بالمعاصى، وما كاد مجاهد يعرف ذلك، حتى بادر بالقبض على المعيطي، وأرسله إلى بلاد المغرب، وهنالك عاش مغمورًا مع إحدى قبائل البربر، حتى مات.
عمد مجاهد إلى تنظيم شئون مملكته، والعمل على النهوض من عثرته، وكانت أكبر محنه يومئذ أسر ولده وأهله فى سردانية، وقد استطاع فداء زوجته وبناته وإخوته، و رفضت أمه العودة إليه، وكانت نصرانية، وكذلك رفضت خالته، وبقيت مشكلة ابنه (علي)، الذى كان فى السابعة من عمره حين أسره، وليس معه أحد سوى أمه، التى كانت نصرانية أيضًا، وقد رفض الصليبيون كل عرض لافتدائه، وأخفق كل مجهود بذله مجاهد لرده، ومضت الأعوام، والغلام يعيش فى الأسر بين النصارى، يربى على دينهم، ويتحدث لغتهم.
وأخيرًا قبل الصليبيون افتداءه، واطلاق سراحه، وذلك بعد عشرة أعوام من أسره، فلما وصل علي إلى دانية، عرض عليه أبوه الإسلام، فقبل، وعني مجاهد بتأديبه وتثقيفه، وآنس فيه مخايل الشجاعة والذكاء والعزم.
خلال مجاهد العامري:
بعد حكم دام زهاء ثلاثين عامًا، ساد فيها النظام، والأمن، والرخاء، توفي مجاهد العامري عام 436هـ.
وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة، بخلال مجاهد العامري، وعبقريته الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأدبية، وقد قال عنه مؤرخ الأندلس الشهير ”ابن حيان“:
“ كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره، لمشاركته فى علم اللسان، ونفوذه فى علم القرآن، عني بذلك من صباه، وابتداء حاله إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن التزيد، عظيم ما مر به فى الحروب برًا وبحرًا، حتى صار فى المعرفة نسيجًا وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسراها صحبة، لانتحالهم الفهم والعلم، فأمه جلة العلماء، وأنسوا بمكانه، وخيموا فى ظل سلطانه، واجتمع عنده من طبقات علماء أهل قرطبة وغيرها، جملة وافرة، وجلة ظاهرة“
وكذلك كان مجاهد من أذكى ملوك الطوائف، وأحذقهم بالشئون المالية والتجارية، وكان نشاطه التجاري الواسع، المترتب على نشاط سفنه التجارية فى مياه غربي البحر المتوسط، يحقق له ثروات طائلة، وكانت مملكة دانية من أغنى ممالك الطوائف، وأكثرها تمتعًا بالرخاء.
كذلك كان مجاهد بحارًا من أعظم بحارة عصره، ومن أكثرهم تمرسًا بالحروب، والغارات البحرية.