فيلم The Truman Show من إنتاج سنة 1998 ويعتبر من أحد أهم أفلام المخرج الأسترالي “بيتر وير” “Peter Weir” والنجم الأمريكي “جيم كاري” “Jim Carrey”. قصة الفيلم تعتبر من قصص الخيال العلمي، والتي قُدِمت في الفيلم في إطار كوميدي خفيف مُحمَّل بالدراما، فإذا تمعنت في القصة جيدًا مثل “ترومان” نفسه، سيتضح لك أن كوميديا الفيلم “البرنامج” حالكة السواد.
الفيلم قد رُشِح لأكثر من 60 جائزة منها ثلاث جوائز أوسكار لأفضل مخرد وسيناريو ودور مساند، ولكنه فاز بأربعين فقط أبرزها وأهمها هي جوائز الجولدن جلوب والبافتا وغيرها… حصد الفيلم تقيم 8.1 على موقع IMDb كما صُنِف من أهم 100 فيلم في تاريخ السينما حسب موقع Ranker.
قصة فيلم The Truman Show
تدور قصة الفيلم حول برنامج تليفزيوني يعرض حياة موظف المبيعات في إحدى شركات التأمين “ترومان بروبانك” على مدار 24 ساعة كل يوم، منذ يوم ولادته وإلى أن وصل لسن الـ 30. فكل من هم في حياة “ترومان” يعتبروا ممثلين للشركة الناقلة للبرنامج، والحقيقة الواحدة التي تعرض داخله هو “ترومان” نفسه، ولكنه لا يعرف ذلك الأمر، وفي اللحظة التي يدقق فيها في تفاصيل حياته، يكتشف العديد من الحقائق التي تجعله في النهاية يقرر الهروب من ذلك الواقع.
سيناريو فيلم The Truman Show
يعتبر سيناريو الفيلم لكاتبه “أندرو نيكول” “Andrew Niccol” هو أحد علامات تميّزه. فبخلاف فكرته العبقرية إلا أنه مليء بالرمزيات الفلسفية التي تجعلك تفكر فيما وراء الأمر، وتسأل نفسك أسئلة عدة، وتجد السيناريو يطرحها هي نفسها في الأحداث كما يطرح إجابتها، منها على سبيل المثال:
“كيف لم يكتشف ترومان أمره كل هذا الوقت؟” وتكون الإجابة ببساطة تامة:
“لأننا نتقبل واقع العالم الذي نُقدَم إليه، إن الأمر بسيط!”.
برع السيناريو في تقديم رموزه العميقة المُجسدة في شخصياته، لترى الواقع الذي يعيش فيه ترومان كم هو منهجي وثابت لدرجة الملل، ولدرجة تجعلك -إن كنت تعيش داخله- تشك في وقوع خطأ ما به، كما ترى كيف أن الجميع: زوجته، أمه، صديقه، زملاءه في العمل، جيرانه.
الكل يقوم بدوره المكتوب له في سناريو البرنامج، أو بمعنى أدق
المُلقى عليه، بحرفية شديدة ولكن ينقصها التلقائية لكي تصير حقيقية، وواقعية مثل ترومان نفسه، تلك التلقائية التي تُستَغل بأشكال عدة مثلما يُستَغل صاحبها.
ومن أهم الرموز المطروحة من خلال الشخصيات، هي شخصية صاحب البرنامج، ذلك الرجل الذي يشاهد كل ما يدور في واقع “ترومان” المزيف، أو بالأحرى الواقع الذي قد صنعه له، من خلال كاميرات التصوير والشاشات التي يستطيع من خلالها أن يرى ويسمع، ويتحكم في كل شيء أمامه.
وفي اللحظة التي بدأ فيها ترومان بوضع يديه على الحقيقة، تبدأ ملحمية السيناريو في عرض وجهتين الصراع بشكل بارع، وذكي لا يتعارض مع الفكرة في شيء، ولا يقلل من عمق رموزها، بل يتماشى مع كل العناصر ليظهر الصراع المنشود في النهاية في أبهى تصور، وأفضل تصاعد حواري على مدار الفيلم كله.
فالسيناريو هو الوسيلة الأهم التي تجعل الفيلم دائمًا يغرد خارج السرب؛ لطرحه واقع الإنسان من منظور غير مسبق، مليئًا بفلسفة عميقة في معانيها، ودينية في مغزاها، تجعلك تفكر وتعيد النظر في أمرك وكأنك “ترومان”.
هذا بخلاف الكوميديا الساخرة التي ليس غرضها إثارة الضحك من أجل الضحك فقط، بل ومن أجل مساعدتك في فهم الفلسفة التي يحملها السيناريو، وبعد أن تفهم ستضحك. هذا الضحك النابع من الكوميديا السوداء التي قد أسرد في إطارها الكاتب فكرته.
الإخراج وطريقة التناول
تناول المخرج “بيتر وير” الفيلم بأسلوب ذكي وبه مهارة عالية، ستجعلك تفرق بسهولة بين الأحداث الحقيقية التي تدور خارج نطاق البرنامج، أي التي يعيشها ترومان نفسه ولا تصورها الكاميرات، وبين الأحداث اليومية المعتادة التي يراها العالم كله بعين كاميرا البرنامج. فبغض النظر عن صعوبة الفكرة نفسها ألا وهي وجود نوعين من الكاميرا: كاميرا البرنامج “الأحداث”، وكاميرا الفيلم نفسه، إلا أن المخرج أستطاع التغلب على الأمر بمرونة تنم عن جدارته.
علاوةً على ذلك استخدامه الفني لزوايا التصوير والعدسات، أخرج صور ممتعة بصريًا ومليئة بالمعاني الفلسفية، كما أنها تُدخِلك في حالة تماهي مع شخصية ترومان وكأنك تعيش معه، تفكر معه، وتشعر بكل ما يشعر به.
بالإضافة إلى أن ذلك الاستخدام التقني أبرز سينمائيًا الرموز غير المجسدة التي توجد بين طيات السيناريو، بشكل تناغم مع الفلسفة المُراد إيصالها من خلال الحوار والشخصيات. وهذا التناغم المتكامل بين أسلوب المخرج وأسلوب السيناريو هو الشيء المطلوب لتحقيق عامل النجاح، والمتعة التي ينتظرها كل مشاهد قبل أن يبدأ أي الفيلم.
كما أن طريقة تناول الفيلم بعين المخرج لم تقلل أبدًا من كوميديا الخيال -السوداء- التي طرحها السيناريو، بل أبرزتها وأثقلت تأثيرها بالشكل الذي قد خدم الفكرة الموجودة في باطنها، بحيث أنه لن يؤثر على فهمك كمتلقي لها، بل وسيأخذك في رحلة مليئة بالتفكر حتى تصل لأعماقها؛ لتفهم
المدلول الدرامي لكل شيء في الفيلم حتى الكوميديا نفسها.
الأداء التمثيلي
كما ذكرت أن الفيلم يعرض فكرة واقع الإنسان في إطار الخيال الدرامي المفعم بالكوميديا السوداء، ولإثقال فكرة الكوميديا نفسها لا بد من وجود ممثل كوميدي يجيد التنقل بين صراعات شخصيته في إطار الكوميديا، مهما كانت أشكال الصراع، وأنواعه.
و
“ترومان بروبانك” لن يمكنك أن تتصور أي ممثل يقوم بدور صعب مثله إلا “جيم كاري”. فالفيلم من اسمه يجعلك على يقين تام بأن كل أحداثه ستتمحور حول “ترومان” نفسه؛ لأن ذلك هو هدف البرنامج أيضًا! وتلك المهمة الصعبة استطاع أن يقوم بها “جيم” ليشعرك أنه “ترومان” الأوحد على كوكب الأرض! وكأنه ليس “جيم كاري” الذي تعرفه، بل هو “ترومان بروبانك” ولم يسبق له أن يكون شخصًا آخر غيره!
فأداء “جيم كاري” الاستثنائي يؤكد أنه درس شخصيته بعناية كبيرة، وتعايش معها لفترة طويلة حتى خرج منها وهو “ترومان بروبانك” موظف المبيعات البسيط الذي يصارع ذكرياته، ليعرف حقيقة الواقع الذي يعيش به، ويرغب في الهروب ولكنه لا يعرف كيف السبيل لذلك؟ بل ولا يعرف إلى أين؟ وخلال كل ما قابله من صراعات أخذ يكتشف رويدًا رويدًا زيف الواقع الذي يعيشه من خلال تصرفات كل من حوله، حتى وصل لنهاية الرحلة بعد مواقف كثيرة ترأسها الخوف وتزعمتها الإرادة!
فترومان هو كل شخص منا، بكل مخاوفه ونزاعاته الداخلية وأفكار عقله، وطبيعته البسيطة المليئة بخفة الظل والحب، وروحه التي يتصارع داخلها الحزن والفرح، والخوف والاطمئنان. وهذا ما استطاع أن يوصله “جيم كاري” من خلال إتقانه أولًا للدور، وثانيًا للكوميديا الفطرية التي يتمتع بها هو نفسه وكذلك “ترومان”، وثالثًا لأدواته كممثل بوجه عام.
وفي ظل الأداء التمثيلي ينبغي ذكر أداء “إيد هاريس” “Ed Harris” في دور
“كريستوف” صاحب البرنامج. والذي يعتبر هو الدور الأوحد -تقريبًا- في الفيلم الذي يخلو من الحس الكوميدي، وذلك لتركيبته الدرامية الصعبة رمزًا ومدلولًا.
فهو يمثل رموزًا كثيرة وغاية في الأهمية، تتطلب أداء منضبط ومؤثر ليجعلك تفكر فيما وراء عباءته، وذلك ما استطاع فعله “إيد هاريس” بطريقته المعتادة في السهل الممتنع، والتي استحق أن يترشح عنها لجائزة الأوسكار لأفضل دور مساند في تلك السنة.
وأيضًا يجب الإشادة بدور “لاورا ليني” “Laura Linney” في دور
“ميريل بروبانك” والتي جسدت في الفيلم “البرنامج” زوجة ترومان، كما أنها تقوم بوظائف أخرى غير ذلك! ويجب الوقوف عند ذلك الدور المحوري قليلًا؛ لأنه مزج بين الحقيقة التي لا يراها ترومان، وبين الواقع المزيف الذي يعيشه معها.
فهي تقوم بتمثيل دورين في قالب واحد، يجمع الصدق بالكذب، والحقيقة بالرياء وهذا ما استطاعت أن تفعله “لاورا” فعلًا بطريقة بسيطة وبها خفة ظل مطلوبة في مثل هذه الأدوار وبدون افتعال.
فشخصيتها قائمة فعلًا على التمثيل، بل وعلى إجادته بشكل منضبط كما هو مرسوم لها وفق سيناريو “البرنامج”، فمكانتها داخله حساسة جدًا؛ لأن أي خطأ بسيط منها سيكشف الأمر عن عاقبه. “فلاورا ليني” كما يقال كانت تمثل التمثيل نفسه وهذا أصعب ما في الدور!
في النهاية يجب الذكر أن فيلم The Truman Show يعتبر من الأفلام التي تحمل فكرة عميقة جدًا، وتقدم رسالة هامة إلى كل مشاهد في إطار الكوميديا، التي قد رسمت على الشاشة بريشة سوداء، لتخرج مع كل مرة ستشاهده فيها برسمة مختلفة، مليئة بالمعاني والصور المدهشة، والرموز،
وتثير في داخلك التساؤلات حول واقعك، ومصيرك، وحياتك كلها، تجاوب لك على البعض، وتترك لعقلك العنان في إجابة البعض الآخر.
وهذا ما فعله الفيلم نفسه سواء من خلال السيناريو، أو من خلال الصورة الخاصة به. ولكن الشيء الوحيد الذي سيظل ثابتًا، هي المتعة السينمائية التي سيحققها لك مع كل مرة ستشاهده فيها.
أحمد يحيى - أراجيك