ملاحظات عن علاقات القانون والأخلاق




*مقارنة القانون بالأخلاق – أوجه الاختلاف بينهما من حيث: النطاق، والشدة، والجزاء*

ليست قواعد القانون وحدها هي التي تنظم علاقات الناس في المجتمع وتحدد لهم سبيل سيرهم وسلوكهم، بل تقوم إلى جانبها قواعد أخرى تلعب دورا كبيرا في هذا الشأن يكاد لا يقل عن دور القواعد القانونية أهمية وأثرا، وفي مقدمة هذه القواعد تأتي قواعد الاخلاق.
ومن واجبنا، لكي تكون الفكرة التي نكونها لانفسنا عن مفهوم القانون كاملة وحدود هذا المفهوم واضحة بالنسبة الينا، أن نتساءل الآن عن العلاقة بين القواعد القانونية من جهة والقواعد الاخلاقية من جهة ثانية.
وفي الواقع، إن التفريق بين القواعد القانونية والاخلاقية لم يحدد بصورة علمية واضحة إلا في العصور الحديثة وبصورة خاصة في القرن الثامن عشر. أما في العصور السابقة فقد كان التداخل بين هذه القواعد كبيرا الى حد يصعب معه التفريق بينهما، بالرغم من أن الرومان قد عرفوا نوعا من هذا التفريق (حيث أن أحد كبار فقهائهم بول (Paul) كان يقول إن ما يسمح به القانون لا يكون دوما موافقا للاخلاق، وهو يعني بذلك أن هنالك فارقا بين القانون من جهة والاخلاق من جهة ثانية). في العصور القديمة، كان الدين هو المسيطر بين أغلب الشعوب، وكان ما يأمر به الدين يعتبر في الوقت ذاته موافقا للاخلاق وواجب الاتباع من الوجهة القانونية.

وبالرغم من أن التداخل لا يزال كبيرا في العصر الحاضر بين قواعد القانون والاخلاق، حيث أن الاولى هي في أغلبها مستمدة من الثانية (فالقواعد التي تأمر بعدم القتل أو السرقة أو بوفاء الديون مثلا هي قواعد قانونية وأخلاقية في نفس الوقت)، بالرغم من هذا التداخل الكبير فقد حاول فقهاء القرن الثامن عشر، وبصورة خاصة توماسيوس (Thomasius) وكانت (Kant)، بيان بعض الفوارق بينهما، وهي فوارق يؤدي إليها اختلاف الغاية والهدف بالنسبة إليهما، من حيث أن الاخلاق تهدف بصورة رئيسية الى تحقيق الطمأنينة والسلامة الداخلية للانسان وبلوغ الكمال الفردي، بينما يهدف القانون قبل كل شيء الى تحقيق الطمأنينة والسلامة العامة أو الخارجية وتأمين النظام في المجتمع.
وعلى هذا، فإن أهم الفوارق بين القواعد القانونية والقواعد الاخلاقية، أو بين القانون والأخلاق، يمكن أن تبدو من ثلاثة وجوه: من حيث نطاق كل منهما، من حيث درجتهما في الشدة، من حيث الجزاء.

*اختلاف القانون والاخلاق من حيث النطاق:

نطاق القانون هو في الواقع أقل سعة من نطاق الاخلاق. ذلك أن القانون إنما يهتم فقط بقسم من أعمال الانسان وتصرفاته لا بها كلها، وهذا القسم يتضمن التصرفات التي تدخل في نطاق سلوكه الاجتماعي وتتصل بعلاقاته مع غيره من أفراد المجتمع، بينما تشمل قواعد الاخلاق هذا النوع من تصرفات الانسان، وتشمل أيضا تصرفاته الخاصة التي تدخل في نطاق سلوكه الفردي حتى ولو لم يكن لها من أثر على علاقاته بالآخرين.
فهناك إذن منطقة مشتركة بين القانون والاخلاق، وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الانسان في المجتمع وصلاته بالغير كالقواعد المتعلقة بمنع ارتكاب الجرائم مثلا أو وفاء الالتزاملت أو احترام حقوق وملكيات الآخرين، وهي قواعد يفرضها القانون والاخلاق معا. وهناك منطقة خاصة بالاخلاق دون القانون، وهي التي تتعلق بسلوك الانسان وتصرفاته الفردية التي لا تأثير لها على صلاته بالآخرين وذلك كالحث على الصدق أو الشجاعة مثلا، وهي عبارة عن قواعد تفرضها الاخلاق دون القانون لنها تتعلق بسلوك الانسان الفردي وتصرفاته الخاصة التي لا أثر لها بالنسبة لحياته الاجتماعية.
وعلى هذا نجد أن القاعدة تظل تعتبر قاعدة أخلاقية لا قانونية طالما أنها تتعلق بالفرد وحده دون أن تؤثر على الآخرين في المجتمع، فإذا امتد أثر القاعدة الى هؤلاء أصبحت قاعدة قانونية وأخلاقية معا. فالاخلاق مثلا تستنكر الكذب العادي الذي لا ينجم عنه ضرر للغير ولكن القانون لا يعاقب عليه، أما إذا سبب هذا الكذب ضررًا للغير، كما في شهادة الزور، فلا يكون منع هذا الكذب عبارة عن مجرد قاعدة أخلاقية فقط وإنما يصبح قاعدة أخلاقية وقانونية معا. وكذلك الاخلاق لا ترضى بالجبن والتخاذل، ولكن القانون لا يعاقب الانسان على جبنه وتخاذله إلا حين يكون هنالك ضرر منهما بالنسبة للمجتمع كما في حالة عدم تقديم مساعدة ممكنة لمصاب إثر حادث طرق مثلا.
وإذا كانت هنالك منطقة مشتركة بين القانون والاخلاق، ومنطقة اخرى خاصة بالاخلاق دون القانون، فإن هنالك منطقة ثالثة يتولى القانون تنظيمها دون أن تكون للاخلاق صلة بها، كما في القواعد المتعلقة مثلا بتنظيم السير التي يفرضها القانون العام لتأمين النظام وتجنب وقوع الاصطدمات بينما لا توجد للاخلاق علاقة بها. فلا يهم الاخلاق أن يكون السير في الطريق عن يمين أو يسار.

*اختلاف القانون والاخلاق من حيث الشدة:

وفي الواقع، إذا كانت هنالك منطقة مشتركة بين القانون والاخلاق، وهي تلك التي تتعلق بتصرفات الانسان ذات الصلة بحياته الاجتماعية وعلاقاته بالافراد الآخرين في المجتمع، فإن القواعد القانونية قد تختلف في بعض الاحيان عن القواعد الاخلاقية في هذا المجال وتكون أقل شدة منها وأكثر تساهلا بسبب مقتضيات المصلحة والضرورة.
وعلى هذا نجد أنه، حتى في حقل التنظيم الاجتماعي، قد تختلف قواعد القانون عن قواعد الاخلاق، ذلك أن الاخلاق إنما تهدف دوما الى الاصلاح التام والكمال المطلق بينما يحرص القانون على مراعاة اعتبارات اخرى كالمصلحة والنفع الى جانب المثل الاخلاقية التي يحاول تحقيقها. فالاخلاق مثلا لا ترضى بحال من الاحوال أن يمتنع انسان عن وفاء دينه مهما مر على الدَين من مدة أو زمن دون المطالبة به من قبل صاحبه، أما القانون فإنه يبيح لهذا الانسان أن يمتنع عن وفاء دينه بعد فترة معينة من الزمن إذا لم يطالبه صاحبه به خلالها (وهذا ما يسمى بـ التقادم) لانه يعتبر أن المصلحة تقضي بألا تظل المنازاعات القانونية قائمة دوما ومستمرة. وكذلك قد يعتبر منافيا للاخلاق أن يظلم البائع المشتري ظلما فاحشا في ثمن ما يشتريه منه، ولكن القانون قد لا يمنع هذا الظلم إلا في ظروف خاصة، حرصا على المصلحة التي تقضي باستقرار المعاملات وعدم افساح المجال لابطال العقود بصورة واسعة.
ومن هنا يتضح لنا معنى جملة الفقيه الروماني بول (Paul) من أن ما يسمح به القانون لا يكون موافقا للاخلاق، كما أن الفقيه الفرنسي بورتاليس (Portalis) يشير الى مثل هذا المعنى حين يقول إن "ما لا يكون مخالفا للقوانين فهو مشروع، ولكن ليس كل ما هو مطابق للقوانين يكون دوما شريفا، لان القوانين إنما تهتم بالمصلحة السياسية للمجتمع أكثر من اهتمامها بالكمال الخلقي للانسان ".

*اختلاف القانون والاخلاق من حيث الجزاء:

فالقواعد القانونية إنما تتميز بأنها مؤيدة من قبل الدولة التي تستطيع أن تفرضها بالقوة حين الاقتضاء، أما القواعد الاخلاقية فإن الذي يفرضها على المرء هو ضميره ووجدانه أو الضمير العام في المجتمع ولكن بدون تدخل من قبل الدولة. فالانسان مثلا يمتنع عن الكذب لأنه يأنف الكذب ولا يرتضيه لنفسه أو خشية الناس الذين قد يحتقرونه ويحجبون ثقتهم عنه، ولكنه يمتنع عن شهادة الزور لهذه الاسباب نفسها ولان الدولة أيضا تعاقب على شهادة الزور.
هذه هي أهم الفوارق التي تميز القانون عن الاخلاق. ومن الضروري أن نشير هنا الى أنه، بالرغم من هذه الفوارق، فالصلة لا تزال قوية جدا ومتينة بين القانون من جهة والاخلاق من جهة ثانية، وهي ستظل أبدا قوية متينة. فالقاعدة الاخلاقية، كما يقول ريبير (Ripert) تحاول دائما أن تصبح قاعدة قانونية، والقواعد القانونية، كما يقول جوسران (Josserand) هي مستمدة في أغلبها من الاخلاق، لدرجة أن القانون ليس سوى الاخلاق حين ترتدي صبغة الزامية.