الضابط النازي الذي جنده الموساد لقتل علماء المان
في عام 1908 وُلد «أوتوسكورتسيني»، في النمسا، لعائلة افتخرت بالخدمة العسكرية للإمبراطورية النمساوية المجرية. وفي سن مبكر ة ظهرت عليه الجرأة والموهبة في نسج حكايات كاذبة ومعقدة، خدعت من حوله بطرق لا تحصى. عاش حياة أكثر غرابة وتعقيدًا، انتقل فيها من القيادة النازية إلى مساعدة الموساد الإسرائيلي في تعطيل برنامج التسليح المصري، في الستينات قبل أعوام قليلة من نكسة 1967.
أوتو.. رجل هتلر المفضل
عام 1931، انضم أوتو إلى الحزب النازي،وخدم في ذراعه المسلح، وذلك قبل عامين من انتخاب أدولف هتلر للاستشارية الألمانية في 1933. وبعدما سيطر الفوهرر على النمسا، وغزى بولندا في عام 1939، لتبدأ الحرب العالمية الثانية. تطوع أوتو في «الإس إس»، وهي وحدة عسكرية خاصة لحماية هتلر، تابعة للحزب النازي، وليس جزءً من الجيش النظامي. يمكن تسميتها وحدة الحرس النازي.
وفي سبتمبر (أيلول) عام 1943، قاد أوتو أشهر عملياته وأكثرها جرأة وصعوبة، عندما قاد وحدة كوماندوز وصلت إلى منتجع جبلي في إيطاليا، إذ كان بنيتو موسوليني – حليف هتلر – مأسورًا هناك عقب الانقلاب عليه، وحرروا موسوليني،وسط ظروف صعبة، ورجعوا بالطائرة إلى ميونيخ، حيث التقى بهتلر هناك.
وعقب العملية منح هتلر أوتو ميدالية صليب معقوف (أعلى ميدالية عسكرية نازية)، من بين 14 ميدالية عسكرية نازية، حصل عليها أوتو خلال مسيرته النازية. وقد التقى أوتو بالفوهرر، دارت بينهما لساعات محادثة وجهًا لوجه، ووُصف أوتو بـ«رجل هتلر المفضل»، و«هيتلر كوماندو». وامتد تقدير قوة أوتو لدول الحلفاء، كأمريكا وبريطانيا، المعادين لألمانيا، بوصف أوتو بـ«أخطر رجل في أوروبا».
ولم تتوقف مغامرات أوتو النازية عند هذا الحد؛ ففي عام 1944 اختار الرجل 150 جنديًا، منهم من يتحدث الإنجليزية بطلاقة؛ لإرباك الحلفاء، بعد إنزال نورماندي في يوم النصر. وألبس المجندين الزيّ الرسمي الأمريكي، الذي استولت عليه ألمانيا خلال الحرب، وتحرك بالدبابات الأمريكية المستولى عليها، ليهاجم الموكب الأمريكي من الخلف مسببًا في ارتباك الموكب، ولكن المغامرة الأخيرة أدت إلى مطاردته واحتجازه في السجون الأمريكية عقب انتهاء الحرب!
الاغتيالات تلاحق النازيين بعد الحرب العالمية الثانية
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، بانتصار الحلفاء على دول المحور. أصبحت المحاكمات والاغتيالات تُلاحق النازيين. ومن بين هؤلاء المُطاردين العالم الألماني النازي هاينزكروج، عالم الصواريخ الذي عمل مع العالم فرنر فون براون، على برنامج لتطوير صواريخ V2و V1، تلك الصواريخ التي استخدمت في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية،ضد لندن، وكان لها آثارها المدمرة على العاصمة الإنجليزية، كما كانت أكثر الصواريخ السرية فتكًا في الحرب.
بعد الحرب وفي بداية الستينات، عمل كروج مع مجموعة من العلماء النازيين الألمانيين، على برنامج سري لتطوير الصواريخ لصالح الحكومة المصرية، تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وعلى إثر ذلك، أخذ كروج يتردد على مصر.
وفي أغسطس (آب) 1962،بدأت تصل رسائل تهديدات للعلماء النازيين الألمان، تُحذرهم من العمل لصالح مصر، وإلا سيتم اغتيالهم جميعًا. وكانت تلك الرسائل والمكالمات الهاتفية، تُزعج كروج، وقد رجّح من أوّل مرة أن تكون إسرائيلية المصدر. وما زاد من مخاوف كروج، أن الموساد الإسرائيلي اختطف قبل عامين أدولف اتشمان من الأرجنتين، وهو واحد من أبرز مُديري الهولكوست؛ ليُعرض على محكمة يهودية في إسرائيل، ويُعدم شنقًا في 31 مايو (أيار) 1960.
بعد تلك التهديدات قرر كروج استئجار ضابط نازي؛ ليعمل حارسًا شخصيًا. وفي مساء يوم 12 سبتمبر (أيلول) 1962 ركب كروج مع حارسه الجديد سيارته المرسيدس الحديثة. بعدما أبرمت شركته «انترا» المتخصصة في التجارة الداخلية والخارجية عقدًا قيمته مليونا فرانك، أي ما يُعادل حاليًا حوالي 12 مليون دولار. وانطلقا إلى شمال ميونيخ في غابة هادئة؛ ليتحدثوا بعيدًا عن العيون!
أنتم عملاء من الموساد جئتم لقتلي
في العام الثالث لاحتجاز أوتو في السجن الأمريكي هرب الرجل في عام 1947 وأُشيع وقتها أن جهاز الاستخبارات الأمريكية «سي آي أيه» ساعده في ذلك. وذهب أوتو إلى اسبانيا التي استقبلت في عهد ملكها «فرانسيسكو فرانكو» الكثير من المحاربين النازيين القدامى. وخلال فترة تواجده في إسبانيا عمل أوتو مستشارًا للرئيس الأرجنتيني «خوان بيرون» وعمل أيضًا لصالح الحكومة المصرية. وأصبح صديقًا للضباط المصريين الذين يُشرفون على برنامج تطوير الصواريخ ويُعينون الخبراء الألمان!
وفي إحدى الليالي، في الشهور الأولى من عام 1962، ذهب أوتو لبار في العاصمة الإسبانية مدريد، مع زوجته «السي فون فينشنتين»، ابنة شقيق وزير مالية هتلر، «هيلمار شاخت». وبينما كان الزوجان يتناولان مشروبًا ما، جاء النادل وقدم سيدة في أواخر العشرينيات، وصديقها، قائلًا: إنهما سائحان ألمانيان، تعرضا لحادث سرقة مروع، فقدوا خلاله كل شيء، أموالهم وأمتعتهم وجوازات السفر الخاصة بهما. حينها عرضت زوجة أوتو استضافتهما في المنزل.
أنا أعرف من أنتم، وأعرف سبب مجيئكم إلى هنا. أنتم عملاء للموساد جئتم لقتلي. صاح أوتو فجأة قاطعًا لحظات الهدوء الأولى لمجيئهم إلى منزله، ملوحًا بمسدسه في وجه الضيفين، ومُهددًا بقتلهما، ليرد الضيفان: «أنت قُلت نصف الحقيقة، نحن بالفعل عملاء للموساد، ولكننا لم نأتِ لنقتلك، ولو جئنا لذلك لقُتلت قبل أسابيع. ولو قتلتنا سيأتي آخرون لاغتيالك، دون أن تتعرف حتى على وجوههم. نحن نعرض أن تساعدنا فقط».
طلبا من أوتو تقديم مساعدات مدفوعة الأجر لإسرائيل، ليرد أوتو: «أنا لا أحتاج لأموال، فلدي ما يكفي منها. ما أريده هو حذف اسمي من قائمة فيزنتال»، وهي قائمة مُعدة لملاحقة مجرمي الحرب النازيين. وافق العميلان على شرط أوتو.
الطريق إلى غابة ميونيخ
كان الحارس الشخصي الذي استأجره كروج، هو أوتو الذي جلس بجانبه داخل سيارة المرسيدس، قاصدين غابة ميونيخ. وتبعتهم سيارة لم ينتبه إليها كروج، بداخلها ثلاثة عملاء للموساد. عند الوصول لمكان آمن في الغابة،قَتَل أوتو كروج، وجاء الثلاثة وألقوا على جثة كروج ماء النار ؛ ليخفوا ملامح جسده، قبل أن يدفنوه هناك. وتمر جريمة القتل حينها، دون اتهام رسمي أو حكم بالإعدام ضد منفذيها.
انضم أوتو إلى للموساد الإسرائيلي مطلع عام 1962، عندما كان في إسبانيا، قبل أن يسافر إلى تل أبيب، ويلتقى برئيس الموساد الإسرائيلي لمعرفة دوره، الذي ارتكز على استهداف العلماء الألمان المشاركين في برنامج تطوير الصواريخ المصرية، على اعتبار أن «مصر تُعد لهولوكوست جديد، بمساعدة العلماء النازيين»، بحسب صحيفة هارتس الإسرائيلية.
أظهر أوتو ولاءً كبيرًا لأهداف الموساد، وسافر بالفعل إلى مصر، قبل أن يذهب إلى ألمانيا؛ بنية تحقيق تلك الأهداف. ووفر للموساد قائمة مُفصلة لأسماء العلماء الألمان، وعناوينهم، وقدم العديد من أسماء الشركات في أوروبا التي تشحن وتبيع المعدات العسكرية لمصر.
أرسل أوتو رسائل متفجرة، تسببت في مقتل خمسة مصريين في مصنع الصواريخ العسكرية، بموقع رقم 333، حيث كان يعمل علماء ألمان. وقد نجحت تلك الحملة في دفع العلماء الألمان إلى مغادرة مصر، والعودة لألمانيا، ليتوقف برنامج تطوير الصواريخ المصري، بعد عامين من اغتيال كروج.
بالفعل حاول عملاء للموساد إقناع «الفيزنتل» بحذف أوتو من قائمة مجرمي الحرب. ولكن الفيزنتل رفض. ما دفع الموساد لأرسل رسالة مزورة، على أنها من الفيزنتل إلى أوتو، مُعلنين حذف اسمه من الفيزنتل. وربما يرجع سبب انضمام أوتو للموساد هو الخوف من اغتياله أو إعدامه، مثلما فعل الموساد مع زميله «أدولف اتشمان».
النازيون يودعون أوتو بالتحية النازية!
بعد كشف صحيفة هآرتس الإسرئيلية لتلك التفاصيل، مُنذ أيام، فتح الادعاء الألماني تحقيقاته في تلك الوقائع، بعد أكثر من خمسة عقود مرت على مقتل أحد علماء ألمانيا، على يد الموساد الإسرائيلي. وكان خبر مقتل كروج قبل نصف قرن، يتلخص في أنه اختفى، ولم يُعرف السبب الحقيقي وراء اختفائه.
وفي هذا الصدد، سألت صحيفة دايلي نيوز البريطانية،أحد عملاء الموساد الذين كانوا متخصصين في استهداف النازيين، ويُدعى «إفرايم زوروف»، ويلقب بصائد النازيين، حول ما إذا كان أوتو قد تورط بالفعل في قتل كروج، ليجيب: «نعم»، وهي نفس الإجابة التي قالها زوروف، عندما سُئل عما إذا كان سيطالب بمحاكمة النازيين الذين ساعدوا إسرائيل، مثل أوتو!
وفي عام 1975، توفي أوتو في إسبانيا، بعد صراع مع مرض السرطان، عن عمر يُناهز 67 عامًا. المُدهش أن عددًا من الضباط النازيين، حضروا جنازته،وألقوا له التحية النازية، مُرددين بعض الأناشيد النازية؛ إذ لم يكونوا على علمٍ بعمالته للموساد الإسرائيلي، الذي حضر منه مُشرفه، في مراسم دفنه