أدلة النصارى على ألوهية المسيح
تؤمن الفرق النصرانية- رغم اختلافها في طبيعة المسيح - تؤمن بأن المسيح إله متجسد، وتؤيد دعواها بعشرات النصوص التي وردت في العهد الجديد أو القديم، وتتحدث عن إلهيته، منها النصوص التي سمته رباً وإلهاً أو ابناً لله، ومنها النصوص التي أفادت أن فيه حلولاً إلهياً، ومنها النصوص التي أضافت خلق المخلوقات إليه ثم ما ظهر على يديه من معجزات إلهية كإخباره ببعض الغيب وإحيائه الموتى…
ملاحظات عامة
وتفحص المحققون أدلة النصارى، وسجلوا ملاحظات هامة في هذا الباب، منها:
- أنه لا يوجد نص واحد في الكتاب المقدس يصرح فيه المسيح بألوهيته أو يطلب من الناس عبادته، وفي هذا الصدد يتحدى ديدات كبير قساوسة السويد قائلاً: «أضع رأسي تحت مقصلة لو أطلعتموني على نص واحد قال فيه عيسى عن نفسه: أنا إله. أو قال: اعبدوني» .
والقس فندر يقول في كتابه «مفتاح الأسرار» مبرراً عدم تصريح المسيح بألوهيته في العهد الجديد: «ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه وعروجه…فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني…إن كبار ملة اليهود أرادوا أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بيّن ألوهيته بين أيديهم إلا عن طريق الألغاز» .
والخوف من اليهود لا يقبل نسبته للإله أو حتى للمسيح الذي رأيناه يواجه اليهود مرراً فيقول: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون…أيها العميان…لأنكم تشبهون القبور المكلسة، أيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم» «متى 23/13-34» ، فكيف له بعد ذلك أن يغمض على البشرية في إظهار حقيقته، ففي ذلك إضلال وتلبيس.
- ثم إن أقوى ما يتعلق به النصارى من الدليل لا يوجد إلا في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح.
بل إن خلو هذه الأناجيل عن الدليل المفقود هو الذي دفع يوحنا – أو كاتب يوحنا - لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب ما لم يكتبه الآخرون، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه.
- إن عدم الدليل الصحيح جعل النصارى يحرفون في طبعات الأناجيل، ومن ذلك إضافتهم نص التثليث الصريح الوحيد في يوحنا 1-5/7 ومثله وقع التحريف في قول بولس: «الله ظهر في الجسد» تيموثاوس 1-3/16 فالفقرة كما قال المحقق كريسباخ: محرفة، إذ ليس في الأصل كلمة «الله» بل ضمير الغائب «هو» ، ومن الممكن أن يعود على الله أو على غيره.
ومثله جاء في التراجم القديمة «عظيم هو سر التقوى الذي ظهر في الجسد » فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على الحلول الإلهي بالمسيح، فقالوا: «عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد)» تيموثاوس 1-3/16.
نصوص نسبت إلى المسيح الألوهية والربوبية
ويستمسك النصارى بالألفاظ التي أطلقت على المسيح لفظ الألوهية والربوبية، ويرونها دالة على ألوهية المسيح، وفي أولها أنه سمي يسوع، وهي كلمة عبرانية معناها: يهوه خلاص.
ومن ذلك ما اعتبروه نبوءة عنه في إشعيا «لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد.» إشعيا9/6).
كذا في قول داود: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. يرسل الرب قضيب عزك من صهيون. تسلط في وسط أعدائك. شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك، أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» المزمور 110-1/4)، فسماه داود رباً.
كما يرى النصارى نبوءة أخرى دالة على ألوهية المسيح في قول إشعيا: «لكن يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل» إشعيا 7/14).
ويرون تحققه بالمسيح كما بشر الملاك يوسف النجار خطيب مريم «فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا» متى 1/18-23)، فتسميته الله معنا دليل - عند النصارى - على ألوهيته.
ومثله جاء في العهد الجديد قول بولس : «المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد» رومية9/5) ومثله قول توما للمسيح: «ربي وإلهي » يوحنا 20/28)، كما قال بطرس له: «حاشاك يا رب» متى 16/22)، وقال أيضاً: «هذا هو رب الكل» أعمال 10/36)، وجاء في سفر الرؤيا عن المسيح: « وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب : ملك الملوك ورب الأرباب» الرؤيا 17/14) وغير ذلك من النصوص مما أطلق على المسيح كلمة رب أو إله، فدل ذلك عندهم على ألوهيته وربوبيته.
الأسماء لا تفيد ألوهية أصحابها
لكن هذه الإطلاقات ما كان لها أن تجعل من المسيح رباً وإلهاً، إذ كثير منها ورد في باب التسمية، وتسمية المخلوق إلهاً لا تجعله كذلك. فقد سمي بولس وبرنابا آلهة لما أتيا ببعض المعجزات «فالجموع لما رأوا ما فعله بولس رفعوا أصواتهم قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا» أعمال 14/11)، فقد كان من عادة الرومان تسمية من يفعل شيئاً فيه نفع للشعب :إلهاً، ولا تغير التسمية في الحقيقة شيئاً، ولا تجعل من المخلوق إلهاً، ولا من العبد الفاني رباً وإلهاً.
وقد سمي إسماعيل بهذا الاسم العبراني، ومعناه: «الله يسمع» ، ومثله يهوياقيم أي: «الله يرفع» ، ويهوشع «الرب خلص» ، وغيرهم … ولم تقتض أسماؤهم ألوهيتَهم.
وجاء في سفر الرؤيا: «من يغلب فسأجعله في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي- أورشليم الجديدة -النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد» الرؤيا 3/12)، وجاء في التوراة: «فيجعلون اسمي على بني إسرائيل» العدد 6/27)، ومع ذلك فليسوا آلهة.
إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس
ثم لو صح الإطلاق والترجمة، فإنه ليس من دلالة لهذه الألفاظ على ألوهية المسيح، فإطلاق كلمة الرب والإله معهود على المخلوقات في الكتاب المقدس.
فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة «الرب» و «الإله» على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه: « ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله» القضاة 13/21-22) ومراده ملاك الله.
وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق «وقال لها ملاك الرب…فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي» . التكوين 16/11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.
ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب «وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم.... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم. وانتقل عمود السحاب من أمامهم، ووقف وراءهم» الخروج 13/21- 14/19)، فسمى الملاك رباً.
ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء فقد قال الله لموسى عن هارون: « وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً » انظر الخروج 4 /16).
ومنها قول الله لموسى: « فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيّك» الخروج 7/1 ) أي: مسلطاً عليه.
وقد عهد تسمية الأنبياء - الله - مجازاً أي رسل الله فقد «كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي. لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً الرائي» صموئيل 1-9/9 .
وأطلقت لفظة «الله» وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج «إن قال العبد…يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب...» الخروج20/5-6).
وفي السفر الذي يليه فيه «وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه…فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه» الخروج 22/8-9).
وفي سفر التثنية «يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة» التثنية 19/17).
ومثله «الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار» المزمور 82/1)، ومقصده أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.
بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره: « أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون» المزمور 82/6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عندما قال: « أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. » يوحنا 10/34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهاً، كما سمى البطن إلهاً، وأراد المعنى المجازي فقال عن الشيطان: «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» كورنثوس 2-4/5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: «الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم…» فيلبي 3/19). ومثله ما جاء في المزامير « لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة.» المزمور 135/5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.
وهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفياً كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، وفي كتاب «مرشد الطالبين» : وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق…و اصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً… «
كما إن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن هناك إلهاً حقيقياً واحداَ، هو الله، فقال: » الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته^ يوحنا 17/3)، وهي ما تعني بوضوح: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله. وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام
ومثل تلك الاستعارات ورد في القرآن كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن «اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه » يوسف: 42)، فمقصوده الملك.