لغتنا وظلم ذوي القربى
د.عبدالله بن سليم الرشيد
يستخف بعض الناس باللغة، ويهزأ بمن يعنى بالتصحيح اللغوي، ويسخر ممن يعالج مظاهر إفسادها، وهو بذلك يكشف جهله بأن لغة كل أمة هي وجه من وجوه هويتها، بل هي حصن إن سقط سقطت بعده الأمة في شرك التبعية وذوبان الشخصية.
إن المستخف بلغته خائن لأمته وهويته، فإن كان يدري فهو طابور خامس، وإن كان لا يدري فهو مسمار لا يعقل!
وهذا الأمر- أعني الجهل بأهمية اللغة وضعف الوعي في العلاقة بها- يكشف شيئًا من آثار الحرب على العربية، فقد نفخ الاستشراق قديمًا في جمر الحرب عليها، فألف بعض المستشرقين كتبًا تقعّد للعامية (سبيتا مثلا) وزعم بعضهم أن الفصحى سبب التخلف (وِلْكُكْس مثلا)!
وحين شعر الاستعمار بخطورة الوحدة اللغوية والشعور المشترك للأمة الممتدة ما بين الخليج إلى المحيط، نصب فخاخًا ما زلنا نشهدها ونئنّ من آثارها. فها هو – أعني الاستشراق في شقّه المظلم- قد نجح في إيجاد أجيال بلا هوية لغوية، وقد يُظن أن هذه مبالغة، ولكنها حقيقة كشفتها الوثائق والأحداث.
فقد صارت إساءة بعض العرب للعربية تفوق ما كان يطمح إليه ذلك الوجه البغيض من الاستشراق: فمن إعلام يجاهر بإفسادها، ورجال يسهمون في إهانتها، وأنظمة تفرّط في حمايتها، وأجيال تتبرأ منها! ونجحت عقود تحييد اللغة في مسخ هُوية بعض البلدان، وتمكين الأجنبي في بعضها، وإضعاف المعرفة بها وتقليل الثقة بطاقاتها.
وفي هذه العُجالة يمكن إيجاز أبرز مظاهر الإساءة للعربية فيما يلي:
تشجيع الفساد العامي
مزاحمتها بلغات أخرى حتى كادت تصبح هي اللغة الثانية!
تهوين شأنها في التعليم والتوظيف والأعمال التجارية
وفي السياق نفسه بدا لي أن عنايتنا باللغة الإنجليزية تجاوزت المقصود والحدّ المقبول! إن تعلم اللغات الأخرى ضرورة، ولكن في حدود الحاجة المعرفية والثقافية، فإذا انقلب تعلمها مفاخرة وتنفّخًا وجعجعة فهو داء ينبغي علاجه. وظاهرة (المدارس العالمية) وجه من وجوه التنفّخ التي زادت الطين بِلّة، وكشفت هشاشة الثقافة إذ بدأت طلائع خريجيها تفاخر بجهلها بالهُوية! وشرع المغترون بها يخاطبون أبناءهم بالإنجليزية وهم في بيوتهم وبين ذويهم! حتى يواكبوا العصرَ – زعموا- ويهيّئوا أبناءهم للدراسة في الخارج! إنها مظاهر توشك آثارها السلبية أن تطغى على جيل لا أدري ما مصيره! والله لطيف بالعباد.
وبعد فهل من جهد مكثّف مدروس المنطلقات محدد الغايات ينقذ العربية من أهلها؟ نعم من أهلها!
إن ثمّ جهدًا كثيرًا يُبذل لحماية العربية وتمكينها، لكن تخامره علل، منها:
١- تحولها إلى حفلات غزل بجمال اللغة في يومها العالمي وفي أيام أخر.
٢- تفرق الجهد وتكراره بلا ثمار .
٣ – ضعف العناية الرسمية.
إن نظام الدولة -السعودية- يحمي العربية ويعاقب من يسيء إليها، ولكنه عند غالب الجهات التنفيذية حبر باهت على ورق! فالتجار يهتكون عرض اللغة صباح مساء، والمتَسَتَّر عليهم من الأجانب الذين لا يراعون فيها ولا فينا إلًّا ولا ذمة، يجاهرون بما يناقض أنظمة البلاد الحامية للغة، فأسماء المحالّ والشركات والأسواق ومعاملاتها بل حتى دعاياتها تكتسب يومًا بعد يوم وجهًا شَتيمًا من العُجمة والفساد العامي، فهل يُعقل مثلاً أن تُرفع لوحات دعايات ضخمة في قلب الرياض وجدة وغيرهما، ليس فيها إلا مثل (4rent) أو (coming soon)، وهل من المنطقي أن ينشئ تجار عرب سوقًا فلا يجدون من الأسماء إلا (رِدْ سي)؟ وأي انحدار ذوقي سقيم جعلهم يفسدون نظام العربية بتقديم المضاف إليه على المضاف في أسماء الأسواق والمحالّ؟! تلك نماذج فحسب. فهل نثق بأن يعي الجيل أهمية لغته ويتمسك بها وهو يراها مضيمة مهملة؟ وهل نطمع في جيل يفقه قوانين لغته والتجار يكْلمونها بتراكيب غريبة عنها (صنيتان مول، جويعد هاوس، مشعان بلازا، كليفيخ قاليري)!!
وهل ننتظر جيلاً واعيًا متقنًا بعد أن زادت وزارة التعليم وتيرة الاستهانة باللغة إذ جعلتها هامشية، بتقليل مقرراتها، وإلغاء اختباراتها في بعض المراحل!!
وأنّى لهذا الجيل وما بعده أن ترسخ في قلبه هُويته وحبّ لغته وقد أسهمت بعض الجامعات في حفل (الردح) ضد العربية، فجعلت التدريس كله بغيرها، وقللت بعض مقرراتها العامة، كالتحرير والمهارات اللغوية؟
إن لغتنا في حاجة إلى عشاق لا إلى موظفين، وإلى حملة فكر وأرباب مبادرة، ولعل الله يخرجُ من أصلاب الأنظمة ما يعطيها حقّها، ويعيد لها وهجَها، ويكفيها شرّ العقَقَة من أبنائها.