المدّ الجديدُ في دراسة البلاغَة يوسّعُ مَدى الرؤيَة ويُدمجُ في المشهَدِ حُقولاً أخرى لم تكنْ مُرْتادَةً من قبلُ أو كانَت ممسوسةً مساً خفيفاً، ولكن لا نغفلُ الدّلالةَ الأولى التي كان يُلمّحُ إلْيها البلاغيونَ الأوائل قبل أن تتحوّلَ البلاغَةُ إلى محسّناتٍ أو إضافات إلى جسم المَعْنى، وهذه الدّلالةُ الأولى هي أنّ البلاغةَ كلّ وسيلةٍ لغويّة بلّغت المُخاطَبَ إلى مَعْنى المتكلّم ومَقاصده، ولكنّ ذلك لم يكنْ يَعني أن تنزلَ لغةُ الخطاب إلى حدّ الإسفافِ من غيرَ أن تَحيدَ عن صفةِ البلاغَة وحدِّها ما دامَ الخطابُ البيلغُ مبَلِّغاً. كانَت البلاغَة والبلاغُ والتبليغُ والتبيين والبيانُ مَفاهيمَ الأوائلِ على عهد الجاحظ ومَن قبلَه، وهي عندهُم متقاربةُ الدّلالة متظافرةٌ في كشف حُجُب المقاصد وتقريبِ المُخاطَب من عالَم المتكلّم.

هل تدخلُ اليومَ استجاباتُ المُخاطَب، في حدّ البلاغَة، وهل تُعدّ هذه الاستجاباتُ جزءاً من عمليّة التّخاطُب، فلا ندرسُ خطاباً إلاّ بعد النّظر في كلامِ المتكلّم وردّ المُخاطَب، ثم اعتراض المتكلّم ثم جوابِ المُخاطَب... فيصير الخطابُ المدروسُ الحوارَ كلَّه أو حركات التّعجّب وإشارات الجسم والمُكاء والتّصدية... سواء على الخطاب أ نتهى مرةً واحدةً أم توقّفَ ثمّ استُؤنفَ، أم دَخَلَت في مشهدِ التّخاطُب أطرافٌ أخرى.

إذا تصوّرنا الخطابَ البلاغيَّ مُتشعّباً موزَّعاً بين متكلّم ومُخاطَبٍ وإفاداتٍ واستفادات وردودٍ وإجاباتٍ، وازدادَ الأمرُ اتّساعاً ليشمَلَ متدخّلينَ آخَرين يُناظرونَ أو يُحاورونَ أو يَعترضونَ، منهم الأصحابُ والخُلَطاءُ والشركاءُ والمُعاونونَ على الأمور والخُصومُ، ومَا لا يبلغُه المتكلمُ من حاجات نفسه إلا بغيرِه، وغيرهم... فإنّ البلاغةَ ستضيعُ حدودُها ورُسومُها وضوابطُها وقواعدُها.

ثم إذا وسّعنا وسائلَ التّخاطُب ولم نكتف بالدّوالّ اللغويّة والتراكيب النّحويّة وأشكال التّعبير اللغويّ المُختلفَة، بل أدخلْنا الوسائلَ السّيميائيّةَ الأخرى من أصناف الدّلالاتِ، مما لا يُصورُه الخطّ، بل تُصوِّرُه أدواتٌ أخرى كل أداة منها بائنةٌ في صورتها عن صورة أختها، ومتفاوتةٌ في كشفِ أعيانِ المعاني جملةً، وفي التفسير والتأويل... فسنُصبحُ أمامَ خطاب بلاغي بلا حدود ولا رسوم ولا ضوابطَ ولا قواعدَ، فكيفَ يُعالَج هذا النّسَق الجديدُ إن اتفقنا على وصفه بالنسَقيّة ؟