على الرغم من النقود التي وجهت إلى النحو العربي استمرّ اعتماده خصيصى النحو المالكي، وأدرك النحويون واللسانيون أن اللسانيّات لم تستطع أن تأتي بنحو تعليميّ بديل عن النحو العربي المعياريّ، ولعل ذلك كان لغلبة نزعة المحافظة والتقليدية على الذهن العربي والشرقي عامة، ولأن اللسانيات نفسها لا تكاد تستقر فمدارسها تتابع تتابعًا تكاد تنسخ به الخالفة السالفة؛ ولكن الأمر الجلي الذي لا يمكن أن يغفل أن لهذه اللسانيات أثرها البالغ في تعليم اللغات للناطقين بها أو بغيرها بما ابتكرته من طرائق ناجعة إن أحسن استعمالها، ولعل من أوفى الأعمال التي شرحت هذه المسألة كتاب د. رضا الطيب الكشو (توظيف اللسانيات في تعليم اللغات)، وقد أحسن (مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية) أن نشره لما اتصف به من شمول واستقصاء وعمق ووضوح وحَيدة.
اهتم الكتاب ببيان أثر اللسانيات في تعليم اللغات انطلاقًا من كون اللغة بنية هي جملة من العلامات ذات العلاقات المترابطة، والسعي بعد ذلك إلى اتخاذ منهج علمي لإعداد مادة تعليمية صالحة، وكان اتجاه البنيوية نحو النظر إلى اللغة نظرة وصفية راهنة آخذة بالاعتبار الملفوظ والمكتوب داعيًا إلى مراعاة الشيوع في استعمال الألفاظ والتراكيب، وفصّل المؤلف هذا في الفصل الأول عن (القوائم اللغوية)، وبهذا الإجراء اقتربت مادة تعليم اللغة من حياة الناس فظهرت جدوى تعلم اللغة وأمكن أن يكون متعلمها، من الناطقين بغيرها، أقدر على التواصل، وجاء الفصل الثاني (التدريبات البنيوية) ليؤسس منهجًا دقيقًا في إعداد المادة التعليمية المتدرجة في أغراضها؛ ولكنه موافق لتدرج المسائل النحوية الدائرة في فلك اللغة من دون احتفال بمقتضيات التواصل. واستفاد معدو المواد التعليمية من تركيز البنيوية على كون اللغة نظام من العلامات المتماسكة بعلاقات محكمة التي من مظاهرها إمكان الاستبدال، والتصنيف والجدولة، فكان المتعلم أثناء تعلمه كاللغوي السابر أغوار اللغة، وبنيت التدريبات اللغوية وفاقًا لهذه النظرة البنيوية، ولما كان الدارس يتأثر في تلقيه بما وقر في نفسه من عادات لغته الأم اهتمت اللسانيات بالتحليل التقابلي للغة، وفصّل المؤلف ذلك في (التحليل التقابلي) وهو تحليل يكشف عن التماثل أو التغاير بين اللغتين من حيث أصواتها وتراكيبها ودلالاتها، وروعي هذا في تأليف المقررات التعليمية بما يحقق الغرض ويتجنب صعوبات المغايرة، على أن تلك الصعوبات قد لا تكون عائقًا في تعلم اللغات، وهذا ما دعا إلى اتجاه آخر وهو مراقبة ما يقع فيه المتعلم من أخطاء ليكون منطلقًا للتعليم، وفصل المؤلف هذا في الفصل الرابع (تحليل الأخطاء) في استعمال الأصوات والأخطاء في التراكيب كتقديم النعت على المنعوت وتعريف المضاف واستعمال حروف الجر، وكذلك الأخطاء الدلالية مثل اتساع دلالة الكلمة والمبالغة في التعميم، ونجد في الفصل الخامس (لسانيات المدونات) دعوة للاستفادة من الإنجاز الحاسوبي لمدونات لغوية تضمنت كمية هائلة من النصوص المتنوعة وهي جديرة بالاستثمار مع توخي الحذر في ذلك؛ لأنها إنجازات لم تهدف إلى تعليم اللغة، وتوقف المؤلف بإيجاز عند تلك المدونات وعرض لبعض البرامج والتطبيقات الحاسوبية وجملة من البحوث المعتمدة على المدونات، ومن حسنات لسانيات المدونات التي بينها المؤلف كونها تمثل الواقع اللغوي وأشكال استعماله، وأنها تتسم بتنوعها وأنها معتمدة على الدقة الحاسوبية وأن الحاسوب قد يظهر ما قد يخفى عن الإنسان، وأما الفصل السادس (اللسانيات والتعليمية بين التعاضد والتواتر) فهو أقصر فصول الكتاب وعرض فيه ثلاثة إسهامات هي ما ورد سابقًا من سمات منهج البنيوية وطرائق تحليلها اللغوي.وقد دعا المؤلف في خاتمته إلى "اتّباع منهج تأليفي ينبني على البنيويّة والتواصلية مع تجنّب سلبيات كلّ مذهب؛ لأن مثل هذا التوجّه يضمن القدرة اللغوية والتواصليّة في الوقت نفسه" وحذر المؤلف من الاقتصار على التواصلية وحدها.
تحية تقدير للدكتور رضا الطيب الكشو لإثراء المكتبة العربية بهذا الكتاب القيم الجدير بالقراءة حقًّا.