..
(1)
من غفلة الضياع إلى لعنة اليقظة
في مرحلة الضياع الأولى، ظلّ “نيو” Neo في فيلم المصفوفة The Matrix يبحث عن الإشارات الخَلَاصية، بعدما كان إنسانًا عاديًا مُنهمِكًا في مستنقعٍ ضَحلٍ، يُدعى: الحياة اليومية.
كان “نيو” تافهًا، بالرغم من أنّ تفاهته هذه كانت تمنحه الطمأنينة والاستقرار، لأنّ الحياة اليومية تخضع لقانون التكرار والرتابة، وهو شيء يمنح الأمانَ الخارجيّ، لكنّه في الوقت نفسه، يُكثّف الفراغ الداخليّ.
فجأة يتلقّى نيو رسالة على شاشة حاسبه: “نيو.. استيقظ”
هذه المرحلة تحديدًا ما سنسميها (الورطة الوجودية) وهو ما يحدث حين تعي شيئًا جديدًا، لَم يكن بالحسبان. السبب الرئيسيّ لـ (الورطة الوجودية) هذه، هو (الوَعي) والوَعي غالبًا ما يأتي على هيئة تعرية الذات من أوهامها، أو ما يحدث حين نستيقظ فجأة من بعد الغفلة والانهماك.
كان ابن القيّم في مدارج السالكين قد وصفَ (اليقظة) بأنّها (انزعاج) حين عرّف اليقظة بقوله: هي انزعاج القلب، لروعة الانتباه، من رقدة الغافلين. واللافت هنا وصف ابن القيّم لليقظة بـ “الانزعاج” تمامًا مثل الصحو من النَوم، ومثل الاستيقاظ من حلمٍ كاذب، انزعاج لأنّك في لحظةٍ ما أدركتَ أنّ الذي كُنتَ تعيشُ فيه لَم يَكُن إلّا وَهمًا وغفلة. حتّى لو اتّخذ شكلُ غفلتك السابقة أشكالًا عدّة بإسم الحرّية والتحرّر والتقدّم والانفتاح، فكلّ ما يُسيطر على أصالتك وعلى عفويتك وعلى قدرتك على عدم الانخراط بما هو شائع، هو بحدّ ذاته استعباد لذاتيتك ولو سمّى نفسه حرّية.
إنّ (خِداع الذات) قد يوفّر قدرًا من الراحة المُؤقّتة، لكن حين تسوء الأوضاع نتيجة صدمة أو فقد عاطفي، ستنهار عوامل الأمان المُؤقّتة والحياة المُتوهّمة. وما نسمّيه بـ (الأزمة الوجودية) هو شعور الفرد بأنّه لا يمكن لأحد أن يحميه من مواجهة الحياة. إنّ حجم الانهيار النفسيّ الذي يحدث للإنسان عند فقدان وظيفة أو فشل علاقة عاطفية يتناسب طرديًا، مع مقدار خداع الإنسان لذاته. وبالتالي ما نراه كإنهيار أو أزمة وجودية، هو فشل الفرد في خداع ذاته (الإنكار، الكبت، السخرية..) أمامَ حقيقةٍ صارخة أو كارثةٍ لا يُمكن تجاهلها.
لذلك فإنّ الأزمة الوجودية: هي هذه المرّة التي لا تنفعكَ فيها حِيَلَك القديمة، ولا إجاباتك الجاهزة. وما لا تستطيع إنكاره أو تجاهله أو تشتيت نفسك بالانشغال عنه. إنّ الإزمة الوجودية، هي ما تضطّر لابتلاعه دفعةً واحدة دون أن تستطيع هضمه أو تفتيتَ زخمه، وما لا تستطيع الامتناع عنه بإغلاقِ فَمِك، إنّها تلكَ اللُقمة الإجبارية من مائدة الحياة. إنّها تلكَ الوجبة التي إمّا أن تستوعبها فتنضج أو تتقيّأها فتظلّ تائهًا في غياهب الوهم.
عند هذه النقطة تحديدًا يملكُ الإنسان خيارًا ما، كما قال صاحب العلاج بالمعنى من قبل، حتّى السجين داخل السجن، يملك خيارات متعدّدة لكيفية قضاء وقته داخل هذا السجن (أحدهم ينتحر، وآخر يصيرُ أكثر تديّنًا، وآخر يتدرّب فيصيرُ رياضيًا، وغيرهم يُدمِن المُخدّرات). لا يملك الإنسان أن يمنع نكبات الحياة ومصائب الدهر، لكنّه يملك أن يمتصّ الصدمات بحكمة، وأن يستثمرها لإنضاج ذاته، أو أن يستوعب النكبة كضحيّة مع بقائه في وضعه الأوّلي بعد الصدمة. في الحالة الأولى يتعامل الإنسان معَ نفسه كمحارب يخوض معارك عدّة، ينتصر بأحدها ويخسر بأخرى لكنّه لا ينهزم وفي كلّ مرّة يكون قد صاغَ نسخة أفضل من نفسه.
أمّا الحالة الثانية فهي حين تقرّر أنّ الأزمة التي تمرّ بها ليست ذا شأن فتتجاهلها أو تنكرها أو تكبتها في داخلك، أو أن تسخط دون أن تخوض رحلة مراجعة ذاتية لكلّ الأوهام التي أحطت نفسكَ بها، وناتج هذه الحالة أن تبقى حيث كُنتَ، من قبلُ ومن بعد، أنتَ حيث أنت.
وأمام ثقافة عالمية تتمركز حول صناعة الضحايا، والترويج لفكرة الضحية بوصفها هُويّة وحيدة للاعتراف، فإنّنا سنقع في فِخاخٍ كثيرة وأوهامٍ عديدة إذا ما سمحنا لأنفسنا أن نتعرّف على أنفسنا بوصفنا ضحايا للخارج أو ضحايا لما يفعله الآخرون بنا. هذا كلّه قد يصحّ لدى العديد من الأفراد، لكنّه لا يصحّ لفئة أخرى مغايرة، فقد كان نيتشه على مقدرة عالية على كشف ألاعيب الذات وأوهامها، وكان الدرس الأهمّ الذي ينبغي أن نتعلّمه، إذا كان من خطرٍ حقيقيٍّ يتهدّدنا، فإنّه ولا شك سيكون من الداخل. فأخطر الأكاذيب هي تلكَ التي نُوجّهها لأنفسنا، وأدوى سقوط سيكون حين تتكسّر أوهامك الذاتية، لا أوهامك الخارجية.
هذا يُعيدنا إلى “نيو” هذا المَلعون الذي حلّت عليه لعنة الصحوة، “نيو” الذي تورّط وجوديًا من الخارج، ففي المجلس الذي جلسه مع “مورفيوس”، أخرج “مورفيوس” حبّتين اثنتين، أحدها حمراء وأخرى زرقاء، تأخذ الزرقاء أخبره مورفيوس، فتنتهي كلّ هذه القصّة، كل هذا العنف الوجوديّ وكلّ هذا الصخب الحَربيّ للحياة، وقال: تستيقظ في فراشك، وتؤمن بما تريد الإيمان به أنّى كان.
عند كلّ أزمة تمرّ بها، تملك خيار أن تعود لأوهامك، أن تعود لسَريرِك، أن تؤمن بما كُنتَ تُؤمنُ به سابقًا، أن لا ترى في نفسكَ أيّة مشكلة، فكلّ ما يجري لكَ من أذى هو من الخارج بطبيعة الحال، أمّا أنتَ فلا شيء يُعيبك، لَم تُخطئ، أنتَ كما أنت، ضحية لغدر الآخرين وفريسة لنوائب الدهر، إذ أيًّا كان التبرير الذي نتّخذه لأنفسنا، فإنّ أي تبرير يفي بالغرض، وكفيل بإبقائنا على قيد الحياة. لذلك فإنّ أخطر ما في الإنسان، هو قدرته الدائمة على تبرير نفسه، إذا فهمتَ هذا، ستعرف أنّه لا حدود للأفعال التي يمكن للإنسان أن يقوم بها، بحجّة مبرّرات كثيرة لا أساسَ لها، لكنّها تعمل بشكلٍ جيّد بطبيعة الحال.
تأخذ الحبّة الحمراء، يقول “مورفيوس” للمسكين “نيو”، فتظلّ في أرض العجائب، وحينها سأُريك عُمق الحفرة. فكما أنّه لا حدود لقدرة الإنسان على تبرير نفسه، -وهذه مهارةٌ إبليسيّةٌ بامتياز- فإنّه لا حدود للإمكانات التي يقدر الإنسان على إطلاقها من ذاته، إذا ما أراد في كلّ مرّة أن يسمح لنفسه بالنماء والاتّساع. إذ ينضج الإنسان في كلّ مرّة يتمكّن فيها من احتمال تناقضاته، وهي عملية تستلزم الشجاعة في أصلها، وهكذا فإنّ الوجود بغير شجاعةٍ ولا مسؤولية، يؤول إلى العدم والغفلة والضياع. فالدّرس البليغ الذي تُقدِّمه لنا الحياة في تقلّباتها وتجاربها:
ما لا تذهب إليه بكاملِ شجاعتك، سيُطاردُكَ كفريسة
وما لا تذهب إليه بإرادتك، سيأتيك قاهرًا إيّاك
والأشياء لا تختفي لمُجرّد رفضكَ النظر إليها
وما ترفض أن تذهب إليه بفضول، سينهشُكَ كصَدمة
وكثرة التصلّب أمام واقعٍ شديد التغيّر، سيتسبّب بتحطيمك!*
يتبع في وقت لاحق ..
..