..
الضعفاء الذين لا يجدون إلا جهدهم. الأخرق قليل الحيلة الذي بذل وسعه فلم يطق أكثر من هذا. الطيبون الذين جعل الله نصيبهم من ذكاء العقل زكاء في النفس. أولئك تدهسهم عجلة المادية، فلا مكان للضعيف هاهنا.
لكنهم في ديننا: من أبواب الجنة، ومن خير من تصاحبهم في الدنيا فينفعوك في الآخرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟»
قيل لرسول الله: أفرأيت إن لم أستطع بعض العمل؟
قال: فتعين ضائعا، أو تصنع لأخرق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقال للرجل:
ما أجلده؟ ما أظرفه؟ ما أعقله؟ وما في قلبه حبة خردل من إيمان.
الأشعث الأغبر المدفوع بالأبواب.
الذين تزدري أعينكم.
الضعفاء منكم.
المهمشون الذين لا يؤبه لهم ولا يؤذن لهم ولا تسمح الدنيا ببزوغ نجمهم، لكن حسبهم أن الله عرفهم !
..
..
غراميات افتراضيّة !
الحُبّ هو ما يحدث للرجال والنساء الذين لا يعرفون بعضهم بعضًا!»
سومرست موم (ت1965م)
«تلاشي أوهامنا هو الخسارة الوحيدة التي لا نتعافى منها أبدًا»
ماري دي لا رامي (ت 1908م)
(1)
في عام 1932م استلم الأديب اللامع إبراهيم المازني (ت1949م) خطابًا من فتاة تقوله فيه: “سيدى الكريم: أحييك تحية القلوب الرفيعة يسودها الحياء والوفاء، وأبعث إليك من أعماق نفسى بآيات الإعجاب بأدبك العالي وثقافتك السامية…الخ”، واسترسلت في الإشادة بأسلوبه، والتعبير عن إعجابها الشديد به، وأشارت إلى أنها تكتب رواية، وتأمل أن يهديها بعض كتبه وقصصه لكي “تأنس بها في تربية ملكة الأدب الذي أتعشّقه”، ثم ختمت رسالتها باسمها: (فاخرة).
لم يتأخر المازني في الردّ، وكتب بأن أسلوب رسالتها “من أرقى ما عرفتُ من أساليب الرسائل النسوية.. إنها أرقى من رسالتي هذه مثلًا!”، وأرسل إليها نسخًا من مؤلفاته عبر وسيط أرسلته هي، فردّت تشكره، وتعبّر عن أملها في أن تراه، وهنا بدأ قلب المازني يتقافز، واستمر يبادلها الرسائل ويسألها عن روايتها، ويطلب رأيها في مسرحية أرسلها لها من تأليفه.
وفي أثناء ذلك شعر المازني بشيء من الريبة بسبب المستوى الرفيع لـ”فاخرة”، والذي لم يكن معهودًا ويكاد يصعب تصوره بالنسبة لفتاة في ذلك العهد، فأخذ يسألها عن مصدر ثقافتها وصلاتها، فكتب لها مرةً: “أظن أنك حيرتني إلى حدّ -لا تضحكي من فضلك- إلى حدّ أني بدأت أظن أن الذي يراسلني ليست آنسة ذكية القلب، نافذة البصيرة، بل هو شاب داهية، يكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي ويسخر مني، فما رأيك في هذا الخاطر؟”، ثم أفصح عن سبب آخر لشكّه، فكتب: “السبب أنى كنتُ -وما أزال- أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أية حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني، ولست أقول ذلك تواضعًا أو على سبيل المزاح، ولكني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت النتيجة إني تحاشيت أن أحاول التحبّب إلى أية امرأة، ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبي لها، وذلك أني أخشى أن أتلقّى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي، وقد أعذّبها معي”.
لم تتوقف المراسلات بينهما، بل إنه تجرأ وطلب منها -كما يمكنك أن تتوقع- أن تريه صورتها، بعد أن أرسل إليها عبر الوسيط صورة شخصية له، فأرسلت تقوله له أن صورته جميلة، فأطربه ذلك، وكتب لها: “صورتي جميلة.. يالله! أفهم بالطبع أن المقصود أنك ترين في الوجه معنىً يروق لك، معنىً مؤلفًا من فكرة مكونة في رأسك البديع الإنتاج.. الحمد لله الذى أرضاك عني”. ثم عاد يلحّ عليها أن ترسل صورتها، ويفيض في الإفصاح عن غرامه الذي لم يعد يخفيه، فختم إحدى رسائله بقوله: “إجلالي وحبي وأشواقي لك يا فاخرة”، ثم وضع بجوار اسمها XXXX، وهذه العلامة X تشير إلى القُبْلة في عرف شبّان ذلك الزمن، قبل اختراع “الإيموجي”.
وأخيرًا أرسلت إليه صورتها الفاتنة، وأخبرته أنها جاءت إلى مكتبه في جريدة السياسة الأسبوعية فلم تجده، فكاد يجنّ، وكتب إليها باندفاع شديد: “يا فاخرة، يا فاخرة، إنك مسئولة عني، مسئولة أمام الله وأمام ضميرك، وأمامي، عن مصيري وعن جنوني، وعن التياعي وخبلي، لا عذر لك بعد أن أوقدت في صدري هذه النار، وأشعلتها حامية مزغردة.. لا عذر لك إذا أنت جنحت إلى الصدّ، وملت إلى إهمالي واطّراحي، نعم فقد صرتُ أحسّ بأن قلبي مزدحم بحبك، كما ازدحم رأسك بهذا الشعر الذهبي الساحر، فماذا تنوين أن تصنعي بي؟”، وتفاقم ما به فقال: “لستُ أسألك شيئًا إلا الرحمة.. إلا الترفّق بفؤاد مصدوع، ومهجة مكلومة، وكبد جريحة”، وشرع يعدد لها ما يعانيه، ثم قال: “كل هذا وأنا أكتب إليك.. فبالله كيف أكتب.. ألستُ مسكينًا يا فاخرة؟ اعترفي أني مسكين، وأني محتاج إليك، وأنى معذور إذا جننتُ، ولكني سأحتفظ ببقية عقلي من أجلك”، ثم أعاد إليها صورتها لأنها اشترطت عليه ذلك، وتوسل إليها أن ترسل صورتها مع كل رسالة وسيعيدها هو مع الجواب. وبعد مدة من المراسلات قالت له أنها لن تزعجه بكثرة الرسائل لانشغاله، فأدركه الهلع من جراء ذلك، وكتب إليها:” أنا محتجّ، محتجّ جدًا، أرجو أن تعدلي عن قرارك فإن فيه من القسوة ما لا أظنك تعنينه، إلا إذا كنت تريدين تمتحني صبري، واعترف بأن لا صبر لي على هذا، فاصنعي معروفًا لخادمك المطيع، واعدلي عن القرار”.
وبعد جملة من الأحداث اقترحت هي فكرة الزواج، وقالت بأن والدتها لاحظت الرسائل، واعترضت فهي لا تقبل علاقة من هذا النوع بلا زواج، ولكن “فاخرة” كتبت له أنها لن تقبل بالزواج منه إلا بشرط أن يطلّق زوجته أم أولاده، وهنا يبدأ الفصل التراجيدي من الحكاية، فقد حطّم هذا الطلب قلب المازني، وكتب في ذلك رسالة تذوب رقّة وحنانًا، يقول: “أقسم لك أن هذا الحديث قد أثّر في قلبي فأضعفه، وسـبّبَ له اضطرابًا، أرجو أن تكون عاقبته سليمة، مجرد اقتراح التطليق، كان وحده كافيًا لذلك”، وأكّد ذلك مجددًا:
“أعترف لك أن هذه الأحاديث (أحاديث الزوجة والأولاد) أزعجتني جدًا، ومزّقت أعصابي وأتلفت قلبي، ونبهتني إلى مستقبل أولادي، والحقيقة أني قصّرت إلى الآن في حقّهم ، ولكن لن أقصر بعد اليوم، سآكل عيشًا وملحًا، وأحمد الله عليهما، وأدخر لهؤلاء الأطفال المساكين الذين ليس لهم بعد الله سواي، وكم يعيش قلبي في هذه الدنيا؟ لا يطول عمر أمثالي ، لأنى كالزوبعة -والزوابع قصيرة العمر -.. لقد صرتُ بعد هذا الحديث؛ إذا داعبتُ أطفالي أو نظرتُ إليهم وهم يلعبون أحسّ باختناق في حلقي، وبالدمع يكاد ينحدر من عيني فأردّه بجهد.. فکّري معي في هذا ، ولا تسأليني عما أعني ، فإن ما أعنيه واضح، وأنا يا فاخرة لستُ حيوانًا، معذرة، أنا إنسان، يحسّ ويدرك، ويتألّم ويستعذب الألم مادام يسعد غيره، نفسي لا تهمني.. إنما يهمني أن لا أكون حيوانًا، ولا مخادعًا، لهذا رجوتُ ورجوتُ أن تقابليني، وأنت نفسك كيف تريدين هذا لنتكلم بطريقة جدية ولنتفاهم.. ولكن هكذا الدنيا.. المثقل بالهموم يحطّ عليه الدهر كل ما يستطيع أن يحط عليه.. لا بأس! فقد تعوّدت أن تحط الأيام على كاهلي ما شاءت، لقد خلقني الله منحوسًا سيء الحظ، فلأبق منحوسًا سيئ الحظّ”.
لا أخفي عليك أن عينيّ اغرورقت بالدموع حين قرأت هذه الرسالة أول مرة قبل سنوات. وهكذا انقطع ما بينهما منذ ذلك الحين.
الجزء الأول من مقالة (غراميات افتراضيّة) عبدالله الوهيبي.
..
..
(2)
المؤسف في كل ما مضى أن المازني كان بالفعل ضحية بائسة لـ”شاب داهية، كاتبه باسم آنسة ليتفكّه به ويسخر منه” كما شعر ذات مرة، فلم تخلق “فاخرة” قطّ، وصورتها بشعرها الذهبي كانت صورة عشوائية انتزعها المخادع من إحدى المجلات وهي تعود لممثلة أجنبية، لكن هذا يحدث كما تعرف لاسيما في أيامنا الركيكة هذه. أما الذي لا يكاد يحدث فكالغرام بالخيال المنامي، كما حكى العلامة ابن حزم (ت ٤٥٦هـ) رحمه الله، قال: “دخلتُ يومًا على أبي السريّ عمار بن زياد فوجدته مفكّرًا مهتمًّا فسألته عما به، فتمنّع ساعة، ثم قال لي: أعجوبة ما سُمعتْ قطّ. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نومي الليلة جارية، فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهِمْتُ بها، وإني لفي أصعب حال من حبّها”، فأنكر عليه ابن حزم وقال: “من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلّق وهْمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي؟ قال: لا والله، قلت: إنك لَفيّلُ الرأي، مصاب البصيرة؛ إذ تحبّ من لم تره قطّ، ولا خُلق ولا هو في الدنيا؛ فما زلتُ به حتى سلا وما كاد”.
الجزء الثاني من مقالة (غراميات افتراضيّة) عبدالله الوهيبي.
..
شكرا لهذة الكتابات الرائعة
حجية خيزران
..
(3)
مع تدشين الشبكة العنكبوتية وانتشار التواصل الشبكي وشيوع العوالم الافتراضية بدأت مرحلة جديدة من خيالات الغرام بين الجنسين وأوهامه، وهي انتقالة نوعية كما يشير الفيلسوف الاجتماعي آرون بن زييف في كتابه (الحبّ الشبكي Love Online)، فهو يرى بأن “الانتقال من الخيالات السلبية [التقليدية] إلى الواقع الافتراضي التفاعلي للفضاء الإلكتروني أكثر جذرية من الانتقال من الصور الفوتوغرافية إلى الأفلام“. وخيالات الناس -كما لا يخفى- لم تزل عامرة بالأهواء والنوازع، إلا أن الفضاء الالكتروني فاقم من حجمها ونطاقها، وأضاف إليها طابعًا تفاعليًا مؤثرًا، ومن هنا يتحدث بن زييف عن “ثورة في دور الخيال داخل العلاقات الشخصية”، وهو خيال تشوبه بعض الوقائع وينبثق عن واقع جزئي، فصورة الطرف الآخر الذهنية في التواصل الافتراضي “ممزوجة بالخيال (لأني أربطه برغبات واستيهامات، ومخاوف وضروب من القلق)، لكنها ليست من صنع الخيال [المحض]، لأن هذا الشخص واقعي”، أي بالإمكان التحقق الفعلي من بعض جوانبه الذاتية بالأدوات التقنية المتاحة، كما يشير باحث آخر، لا سيما مع تطور التقنيات التواصلية (صياغة بن زييف غير المتحفظة ربما تُفَسّر بكونه كان يفكر في عصر البدايات ما قبل شبكات التواصل الأحدث فكتابه المذكور نشر عام 2004م)، إلا أن كل هذه الإمكانيات الجديدة لا تلغي تأثير “الخيالات” الحتمية الناجمة عن فجوة الاجتماع الواقعي/المادي، كما سنرى.
الجزء الثالث من مقالة ( غراميات افتراضيّة) /عبدالله الوهيبي.
..
الخيزران
سجلت متابع يفترض عليك الاهتمام بجمهورك
استمري بارك الله بك
..
(4)
يرصد بن زييف وآخرين الجاذبية التي تحفّ العلاقات العاطفية الشبكية، وهذا الإغراء المستمر بين الجنسين أصبح أكثر إغواءً في المناخ الافتراضية لأسباب مفهومة، أولًا بسبب الوفرة، فخيارات الارتباط والتواصل أضحت غزيرة وأكثر بكثير مما يتاح للفرد عادةً في حياته اليومية، وثانيًا لطابعها التفاعلي الجاذب، وإمكانيات التحكم، فيمكنك تسيير العلاقة ببطء أو زيادة وتيرتها، كما تتيح لك الوسائط التحكم في ردود الفعل العفوية، والشعور بالتحكم عمومًا يعد أمرًا أساسيًا في الأنشطة الممتعة. وتتيح التحكم أيضًا في عرض الذات، وتنظيم الإفصاح عن دواخلها. وثالثًا العلاقات الافتراضية مغرية بسبب البعد الخيالي فيها، فالفضاء الالكتروني يحرر الذات من قيود الجسد، فالجسد “مصدر القيود الأخلاقية والذهنية في العلاقات الشخصية”، فتلاقي العيون الفعلي، وإكراهات إدارة انطباعات الجسد الخارجية، ومخاطر التلامس؛ تعرقل التواصل الفعلي، وتزيد تعقيدات حدوثه، بخلاف العوالم الافتراضية، حيث تسهّل الخيالات المتحررة الألفة، بل وربما تسرّع حدوث الغرام، وهنا يتحدث بن زييف عن “الحبّ من أول دردشة”.
الخيالات ليس مكونًا هامشيًا بل جذرًا جوهريًا يقع في قلب الغراميات الافتراضية، ويكاد يشكّل بنيتها الأساسية، ويؤثر في تطوّرها، ويحدد تفاعلاتها الداخلية، وهي خيالات حتميّة -كما أشرت آنفًا- بسبب الشُحّ الجوهري من الإشارات المادية الواقعية، كلغة الجسد، والرؤية المباشرة لتصرفات الطرف الآخر، والوجود الحقيقي الدائم؛ حيث تتقلّص فرص التحكم في عرض نسخة محددة من “ذات” جذابة بنحوٍ ما.
وهذه الخيالات ضرورية لبناء “قصة رومانسية” أو خلق تكوين عاطفي من نوعٍ ما، فبخلاف الوهم الشائع الذي يفترض أن “الانفتاح” الكامل على ميزات الشريك ونقائصه يشكّل مفتاح العلاقة الرومانسية وأساسها، ففي الغالب لا يتكوّن الشعور بالأمان العاطفي إلا “بنسج سردية تزخرف فضائل الشريك وتتغاضى عن أخطائه، أو تقلل منها على الأقل”، وهذا السياق يندرج ضمن ما يسمى في بعض الأبحاث النفسية المعاصرة “الأوهام الإيجابية Positive Illusions”، وفي العلاقات تحديدًا ذهبت بعض الأبحاث الأحدث إلى تأكيد الدور المهم للرؤية المثالية/غير الواقعية للشريك، أي تصور الشريك تصورًا إيجابيًا مبالغًا فيه ممزوجًا بخيالات سخية، وتوصلت بعض هذه الأبحاث إلى أن الأزواج الذين ينظرون لبعضهم برؤية مثالية حيث “يرون في شركائهم فضائل ليست واضحة لأي شخص آخر” تعد علاقتهم أكثر إرضاء وإشباعًا واستمرارية، وهذه النتيجة الموثقة في عدة دراسات تناقض الحدس الشائع القائل بأن المثالية مدعاة للإحباط بالضرورة، ومقدمة طبيعية لخيبة الأمل.
ولذلك فإن من سبل ترسيخ الحميمية الزوجية وإبقاء المودة بين الزوجين المحافظة على طرف من هذا “الوهم”، الذي يظهر فيه الشريك بأكمل وأجمل حلّة على الدوام، ومن ذلك التجنّب القصدي عن رؤية النواقص، أو لنقل استعمال “فلتر” دائم، وقد أشار إلى هذا قديمًا الخبير النفسي البارع أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ) رحمه الله، فنصح الزوجين بالحذر من التقارب المفرط، وقال: «ليكن للمرأة فراش، وله فراش، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال. ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء؛ فيرى المرأة متبذّلة، تقول: هذا أبو أولادي! ويتبذّل هو! فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي، فينفر القلب، وتبقى المعاشرة بغير محبة»، وذكر بعض التفاصيل الأخرى التي ربما لا يناسب نقلها هنا.
الجزء الرابع من مقالة ( غراميات افتراضيّة ) عبدالله الوهيبي
..
شكرا لهذا النقل البديع
لازلت في شغف الى باقي الاجزاء
شكرا الاخت الخيزران
وانا مؤيد رأي ابن الجوزي
..
(5)
بسبب الندرة المعلوماتية ومحدودية وسائل إدراك شعور الطرف الآخر وفهمه يطوّر الشركاء في العلاقة “حساسية” خاصة لتتبّع والتقاط التفاصيل الصغيرة من أجل الفهم وتحسين ردة الفعل الملائمة، لأنه من غير فهم مشاعر وأفكار الشريك لا يمكن تطوير أي علاقة أو حتى استمرارها، فسرعة الردّ أو تأخره، وطول الجُمَل أو اقتضابها، وتكررها، وأوقات تفعيل “الاتصال”، والكتابة ثم التراجع عن الإرسال، ونوع الإيموجي المستخدم، وحتى لون “القلب”، وغيرها من الإشارات الضئيلة تزخر بدلالات مؤثرة في علاقات كهذه.
ونتيجة هذه “الحساسية” ومع تتابع التواصل وتعمقه؛ لربما يصل الشريك إلى مستوى فهم للطرف الآخر يفوق فهم الأزواج لبعضهم في الواقع، ولذا يعبّر البعض في الأبحاث التي تناقش العلاقات الافتراضية أن “معشوقه الافتراضي يفهم شعوره ويقرأ أفكاره أفضل من الزوج”، والسبب -بحسب بن زييف على الأقل- يعود إلى هذه “الحساسية” النفسانية. وهناك مؤثر آخر لا يقل أهمية عن ذلك، وهو أنه في العلاقات الفعلية يعتبر وجود الشريك واستمرار الاتصال به أمرًا مسلّمًا به، وتدريجيًا يقل التفاعل مع أفكاره ومشاعره، بخلاف الواقع الافتراضي الذي يسعى أطرافه باستمرار ودأب لتعويض الغياب المرئي. إلى جوار درجة الإفصاح المفرطة في العلاقات الافتراضية، فالنموذج الأنثوي للتواصل هو الطابع الغالب على أنماط التواصلات الشبكية، كما يشير بن زييف، من حيث كثافة العواطف، وتدفق المشاعر، وعمق “الفضفضة”، ولذلك يعبّر العديد من المنخرطين في هذه العلاقات بأنهم “أخبروا بعضهم بعضًا بكل شيء على الإطلاق، وكشفوا عن أشياء لم يكشفوها قطّ لأي شخص آخر، بما في ذلك أزواجهم”، ويشبّه نمط الإفصاح في العلاقات الشبكية تشبيهًا معبّرًا بأنها “تشبه -إلى حدٍّ ما- كتابة اليوميات، ففي الحالتين يمكنك التعبير عن أفكارك بحرية دون مخاطر” إلى حدٍّ ما أيضًا.
الجزء الخامس من مقالة ( غراميات افتراضيّة ) عبدالله الوهيبي
..