..
اشتهر الكاتب والشاعر والأديب محمد بن عبد الملك المعروف بابن الزيّات (ت233هـ)، بما نقل عنه أنه كان يقول: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة، وضعف في البنْيَة، ما رحمتُ أحدًا قطّ!»، فالرحمة –في زعمه- ضعف وهشاشة لا تلائم صلابة الرجال، وهذه النزعة الشرسة لم تكتفِ بانعدام التعاطف، بل امتدت إلى جفاء الشعور وصلف الوجدان، فكان يقول مستنكرًا قيمة الجيرة: «الْجوَار قرَابَة بَين الْحِيطَان»، وأظنه لو اتفق له لقال:
يُبكَى علينا ولا نَبكي على أحدٍ
لنحنُ أغلظُ أكبادًا من الإبلِ!
ولذلك لا يستغرب أن ابن الزيات لما تهيأت له السلطة ونال الوزارة، وأمكنه البطش بلا حساب؛ ابتكر عقوبة وحشية تليق بميوله المختلّة، فيحكي المؤرخ والأديب ابن خلكان (ت681هـ) عنه أنه في أيام وزارته «اتّخذ تنّورًا من حديد وأطراف مساميره المحددة إلى داخل، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ [الإبر الكبيرة]، وكان يعذّب فيه المصادَرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال».
وذكر ابن الأثير (ت 630هـ) في “كامله” وصفًا أدقّ لهذه الآلة، فذكر أن التنّور «من خشب فيه مَسَامِير من حديد أطرافها إلى داخل التَّنُّورِ، وتَمْنَعُ من يكون فيه من الحركة، وكان ضَيِّقًا بحيث إن الإنسان كان يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى فوق رأسه؛ لِيَقْدِرَ على دخوله لِضِيقِهِ، وَلَا يَقْدِرُ من يكون فيه يَجْلِسُ»، فهذه الآلة البشعة تجمع إلى ألم الضيق الشديد، وضآلة التهوية؛ التقييد القاسي للحركة، لأن المُلقى في التنور إذا تحرّك انغرست أطراف المسامير الحادة في جسده، فإذا أَدخل الجلاد من اُبتلي إلى تنّور العذاب، ربما توسّل إلى ابن الزيات فيقول: أيها الوزير ارحمني، فيجيبه: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة».
ويعلّق ابن خلكان على وحشية ابن الزيات فيقول أنه «لم يسبقه أحد إلى هذه المعاقبة»، يعني هذه الآلة بعينها، وإلا فأذهان البشر لا تزال منذ أزمنة قصيّة تتفتّق عن طرائق للقتل والتعذيب يخجل منها الشيطان (انظر إن شئت: موسوعة العذاب، لعبود الشالجي، نشر الدار العربية للموسوعات، وأيضًا: تاريخ التعذيب لبرنهارت هروود. وأنصحك أن لا تفعل).
ثم إن الأيام دارت واستدارت، ولا بد لها أن تفعل، فجاء الدور على ابن الزيات، حيث غضبت عليه السلطة، وعُزل عن منصبه، واعتقل وعوقب أولًا بـ”التسهير”، قال ابن الأثير «ثُمَّ سُوهِرَ، وَكَانَ يُنْخَسُ بِمِسَلَّةٍ لِئَلَّا يَنَامَ»، ولم يكن صبورًا ولا صلبًا، بل كان جزعًا شديد البكاء، وهذا حال بعض العتاة يبلغ بهم الطغيان والتعاظم أن يفقدوا القدرة على تخيّل ذهاب ما بأيديهم من سلطة ونفوذ، فربما يكون جزعهم للمفاجأة أعظم من جزعهم لآلام العذاب، ثم أمر المتوكل بإدخال ابن الزيات في “تنّوره” الذي صنعه، وقُيّد بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فتوسّل ابن الزيات متّضعًا مهانًا بعد أن بلغ منه العذاب مبلغه: “يا أمير المؤمنين ارحمني”، فأجابه المتوكل إجابة درامية مرددًا مقولته الأثيرة: «الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطبيعة!».!*
..