كانت الضوضاء الصادرة عن "سماعات الرأس" بمثابة طنين مزعج لعالمي الفلك أرنو بينزياس وروبرت ويلسون. تُرك هوائي بوق يبلغ طوله 15 مترا في نيوجيرسي بعد التخلص التدريجي من نظام الأقمار الصناعية ، وكانت خطة الفلكيين بينزياس وويلسون هي استخدامه للاستماع إلى إشارات الراديو من الفضاء. ولكن كان الاضطراب يهيمن على قياساتهم بسبب ضوضاء خلفية مستمرة ومزعجة.
قام ويلسون وبينزياس بتوجيه الهوائي بعيدا عن نيويورك للقضاء على موجات الرايدو التي كان مصدرها صنع الإنسان ،لكن المشكلة ظلت قائمة. جربوا جميع الاتجاهات الممكنة ولكنهم كانوا دائما يحصلون على نفس النتيجة.
أظهر فحص شامل لبوق الهوائي أنه كان مليئا بفضلات الحمام والخفافيش. فربما كان هذا هو سبب المشكلة. قاموا على الفور بإزالة الأوساخ مع اعشاش الحمام من البوق، وعالجوا الحمام العنيد ببنادق الصيد حتى اصبح الهوائي نظيفا تماما, لكن الضوضاء كانت لا تزال موجودة. حينها أدرك بينزياس وويلسون أنه لا يوجد خطأ في الهوائي.
اخذ العالمان يفكران بنظرية الفيزيائي روبرت ديك القائلة بأنه إذا كان نموذج الانفجار العظيم صحيحا ، فانه ستكون هناك اشعة ضعيفة جدا ومتشابهة من جميع الاتجاهات نشأت منذ ولادة الكون. اتصلوا بديك وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن هذه الاشعة هي بالضبط ما اكتشفوه. في العام التالي ، أي 1965 ، قام الثلاثة ديك وويلسون وبينزياس بنشر نتائجهم وتفسيراتهم لها. كان هذا الاكتشاف هو:
اشعاع الخلفية الكونية.
أكد إشعاع الخلفية الكونية صحة كلا من نموذج الانفجار العظيم والمبدأ الكوني القائل بأن الكون متوازن ومتجانس إلى حد كبير .ان إشعاع الخلفية الكونية متشابه تماما تقريبا بغض النظر عن الاتجاه الذي نقيسه فيه, وهكذا سيكون الأمر إذا كنا في أي مكان آخر في الكون.
نشأ إشعاع الخلفية الكونية عندما كان عمر الكون ثلاث مئة وثمانين الف سنة فقط. عند ذلك الوقت كان الكون قد تمدد وبرد لدرجة أن الإلكترونات والبروتونات تمكنت من أن تتحد معا لتشكل الذرات.
وهذا يعني أن الإشعاع على شكل فوتونات ، والذي اعترضته الإلكترونات الحرة سابقا ، يمكنه الآن التحرك بحرية عبر الكون.
لذلك يقول علماء الفلك أن الكون أصبح "شفافا". وبالتالي ، فإن إشعاع الخلفية يشكل أيضا الحد الأقصى لمدى إمكانية النظر إلى الوراء.
مع اكتشاف إشعاع الخلفية كُتب للكون تاريخ جديد. فالان يمكن أن يخبرنا نموذج الانفجار العظيم عن تاريخ ميلاد الكون وكيف تغير منذ ذلك الحين. ليس هذا فقط ، يمكن لإشعاع الخلفية أيضا أن يكشف عن شكل الكون.
عندما أطلق أينشتاين نظريته العامة للنسبية ، بدأ العديد من علماء الفلك باستخدام صيغه لحساب هندسة الكون ككل. كان أحدهم الروسي ألكسندر فريدمان. في وقت مبكر من عام 1922 قدم فريدمان نماذج تتوافق مع كل من معادلات وصيغ اينشتاين ومع المبدأ الكوني. بشكل عام يجب أن ينحني الكون بنفس الطريقة بغض النظر عن مكان وجودنا فيه، ويمكن أن يعمل فقط بثلاث احتمالات مختلفة:
الاحتمال الاول: قد يكون الكون مغلق ، مثل سطح البالون الذي تخيلناه سابقا. الكون المغلق له نطاق محدود. إذا تخيلنا أننا نرسل شعاعين متوازيين من الضوء في كون مغلق ، فسوف يلتقيان في النهاية ، بنفس الطريقة التي تلتقي بها خطوط طول الأرض عند القطبين.
الاحتمال الثاني: هو أن الكون ينحني في الاتجاه المعاكس ، مما ينتج عنه ما يسمى بالكون المفتوح الذي يبدو أساسا مثل السرج. في هذه الفرضية فان شعاعي الضوء لن يلتقيا أبدا بل على العكس فانهما يتباعدان. الكون المفتوح غير محدود ، أي لانهائي في كل الاتجاهات.
الاحتمال الثالث: والذي يكمن بين الاحتمالين الأولين ويسمى الكون المسطح. هنا ، سيظل شعاعا الضوء متوازيين. مثل الكون المفتوح ، الكون المسطح لانهائي ايضا.
منذ اكتشاف إشعاع الخلفية تم اعادة دراسته عدة مرات. أعطتنا الأقمار الصناعية مسبار كوبي الفضائي (COBE) و مسبار ويلكينسون (WMAP) ومسبار بلانك (PLANK) المزيد والمزيد من القياسات التفصيلية للإشعاع ، واشارت التحليلات إلى أن الكون مسطح, أو على الأقل قريب جدا من أن يكون مسطحا.
بالنسبة لعلماء الفلك كان شكل الكون الهندسي بالغ الأهمية لأنه كان وثيق الصلة بمستقبل الكون.على سبيل المثال قد يعني الشكل المغلق أن الجاذبية ستكتسب في نهاية المطاف اليد العليا على تمدد الكون بحيث يجب أن تبدأ في الانكماش وتنتهي الى الانهيار ، وهذا ما يسمى بالأزمة الكونية الكبرى.
لاحقا تغير هذا النوع من المفاهيم بشكل جذري, قبل مطلع الألفية عندما قلب اكتشاف مذهل كل شيء رأسا على عقب. مرة أخرى كان هذا الاكتشاف لأن بعض علماء الفلك استخدموا مقياسا جديدا امتد إلى الكون أكثر من ذي قبل.
يحب علماء الفلك المستعرات العظمى كثيرا وخاصة نوع خاص يسمى (Ia) اذ يمنكه ان يبقيهم مستيقظين طوال الليل. يحدث هذا النوع من المستعرات العظمى بطريقة خاصة مما يعني أنه يمكن استخدام الضوء المنبعث منها لقياس المسافة اليها .ينشأ المستعر الأعظم (Ia) في نظام نجمي مزدوج حيث يكون له قرين و يسمى أحد النجوم بقزم أبيض. إذا كان النجمان قريبين من بعضهما البعض ، فإن القزم الأبيض يمتص المادة تدريجيا من شريكه حتى يصل إلى كتلة حرجة. ثم ينفجر على شكل مستعر أعظم ويكون الضوء قويا لدرجة أنه يطغى على جميع الاضواء المنبعثة من جميع النجوم الأخرى في مجرتهم.
نظرا لأن علماء الفلك يعرفون الكتلة الحرجة ، فإنه أيضا لديهم معرفة بالسطوع المنطلق من المستعر الأعظم وبالتالي يمكنهم حساب المسافة إليه بنفس الطريقة التي استخدمها هابل مع القيفاويات. ومع ذلك ، فإن المستعرات العظمى أقوى بكثير من النجوم القيفاوية ، وبالتالي يمكن رؤيتها من مسافة أطول بكثير.
في عام 1998 قام عالم الفيزياء الفلكي الأمريكي سول بيرلموتر وزملاؤه في مشروع المستعرات العظمى الفلكي (Supernova Cosmology Project) بالبحث عن المستعرات العظمى (Ia) في المجرات البعيدة جدا. حيث قاموا بقياس الضوء الصادر منها ثم قاموا بحساب المسافة اليها. في الوقت نفسه قاموا ، مثل هابل ، بالتحقيق في مقدار انزياح الضوء نحو الأحمر ، أي مدى سرعة تحرك المجرات بعيدا عنا. كان الضوء القادم من المجرات البعيدة جدا يتحرك نحونا لفترة أطول من الضوء القادم من المجرات الأقرب.
لذلك ، فإنه من خلال طول عمر الضوء يمكننا معرفة مدى سرعة توسع الكون منذ مليارات السنين. ولكن هنا ظهرت مفاجأة جديدة: فقد بدت سرعة المجرات البعيدة أبطأ بكثير من النتائج التي توصل اليها هابل.
يمكن أن يكون لهذا الاكتشاف الجديد تفسير واحد فقط: مجرات الكون تحركت منذ مليارات السنين أبطأ مما هي عليه اليوم. بعبارة أخرى ، فإن تمدد الكون يتسارع.
قال شاول بيرلموتر فيما بعد عن هذا الاكتشاف المذهل: "ما عانينا منه كان مثل إلقاء تفاحة في الهواء ورؤيتها تختفي في الفضاء" لقد أشار بالطبع إلى قصة التفاحة ـ على فرض صحتها ـ التي أعطت نيوتن نظرة ثاقبة لطبيعة الجاذبية. ولكن هنا ـ في اكتشاف بيرلموتر ـ كانت النتيجة بدلا من ذلك امرا غير متوقع.
في نفس الوقت الذي حقق فيه بيرلموتر هذا الانجاز الفلكي ، توصل فريق بحثي منافس بقيادة آدم ريس إلى نفس النتيجة. في عام 2011 ، حصل كلٌ من بيرلموتر وريس على جائزة نوبل لجهودهما في هذا المجال.
يوضح هذا التأكيد لتسارع تمدد الكون أن هناك قوة تعمل عكس الجاذبية. إذا تم تضمين الجاذبية في الصورة فقط ، فلن يتسارع التوسع، بل على العكس ، سينخفض مع تقدم الكون في العمر. في مجرتنا والمجرات الاقرب الينا لا نرى تأثير القوة المعاكسة لأن الجاذبية هنا أقوى بكثير. ولكن على المستوى الكوني تلعب تلك القوة المجهولة دورا حاسما, وتشكل ما يصل إلى 70٪ من كل المادة والطاقة الموجودة في الكون بأسره. في وقت مبكر من عام 1998 أطلق عالم الكونيات الأمريكي مايكل تيرنر على القوة المجهولة اسم:
الطاقة المظلمة
لأنها لا تتفاعل مع الإشعاع الكهرومغناطيسي كالضوء. كانت تسمية الطاقة المظلمة مناسبة جدا لأن العلماء ، على أقل تقدير ، يعيشون في ظلام عندما يتعلق الأمر بفهم تلك القوة الغامضة.
أحد الجوانب الأكثر غرابة في الطاقة المظلمة هو أن هذه الطاقة تتزايد لتصبح أكثر فأكثر طوال الوقت. نظرا لأن الطاقة المظلمة تتسبب في تمدد الكون ، فإنه منطقيا يجب ا يتناقص متوسط وجود المادة في الكون . لكن على الخلاف من ذلك فإن وجود الطاقة المظلمة ثابت ، لذلك في الكون المتنامي تنمو الكمية بشكل مماثل. مما يعطي ذلك تأثيرا متسارعا حيث تخلق الطاقة المظلمة تمددا يوفر مساحة لطاقة مظلمة جديدة التي بدورها توفر مزيدا من التوسع... الخ.
على الرغم من أن العلماء لا يعرفون الكثير عن الطاقة المظلمة ، إلا أنهم يستطيعون الاعتماد على تأثيرها , كما اتضح أنها تتوافق جيدا رياضيا مع الثابت الكوني الذي أدخله أينشتاين في صيغه في عام 1917.
الفكرة التي اعتبرها هو نفسه خطأ لم تعد الان غبية.
يمكن اعتبار الثابت الكوني مقياسا لما يسمى طاقة الفراغ. إنها أصغر طاقة, و تسمى أيضا طاقة نقطة الصفر, والتي توجد في الفراغ المثالي في الفضاء.
تكمن المشكلة في وجود فرق كبير بين القيمة التي يمكن للباحثين حسابها والقيمة التي توفرها الملاحظات ، والتي تُعتبر اليوم واحدة من أكبر الألغاز العلمية التي لم يتم حلها.
ومع ذلك فان هذا لا يجعل علماء الفلك يشككون في نظرية الانفجار العظيم. اذ تتفق جميع الملاحظات الأخرى جدا مع النظرية التي أصبحت اليوم مقبولة على نطاق واسع كنموذج لتاريخ الكون, تماما مثل ما تقدم أيضا صورة عن حجم الكون.
الضوء القادم من أبعد المجرات التي يمكننا رؤيتها في الكون يتحول إلى اللون الأحمر لدرجة أن علماء الفلك قد قدروا أن عمر الكون يقارب الـ 13.8 مليار سنة. هذا يعني أن الكون قديم جدا. فقد يعتقد المرء أن هذه المجرات تبعد عنا 13.8 مليار سنة ضوئية ، لكن هذا ليس هو الحال. نظرا لأن الكون قد توسع بينما كان ضوء المجرات يتجه نحونا ، فإنها اليوم أبعد بكثير مما كان عليه الحال عند بداية انطلاق الضوء بعيدا عنها.
المجرات الأكثر بعدا التي يمكننا رؤية الضوء المنبعث منها تبعد عنا مسافة 46.1 مليار سنة ضوئية. هذا بالطبع صحيح في جميع الاتجاهات ويعني أن ما يسميه علماء الفلك "الكون المنظور او الكون المرئي" يبلغ قطره 92.2 مليار سنة ضوئية.
لكن ماذا عن الكون غير المنظور؟ أي الجزء الأبعد من الكون والذي لا يمكننا رؤيته؟ هنا أصبح علماء الكونيات أكثر حذرا, مع ان بعضهم ما زال يطرح النظريات حول هذا الموضوع.
في عام 2016 شرع فريق من الباحثين من جامعة أكسفورد بإنجلترا في مشروع لحساب حجم الكون غير المرئي. لقد جمعوا كل قياسات المسافات التي يمكن أن يجدوها من جميع أنواع الأشياء ووضعوها في نموذج حاسوبي معقد للغاية. ثم سمحوا للكمبيوتر بالاعتماد على جميع أنواع السيناريوهات المختلفة حيث يمكن أن يكون للقياسات معنى. ثم قام الكمبيوتر بحساب احتمال تطابق قياسات المسافة مع انحناءات مختلفة للكون وما قد يعنيه ذلك بالنسبة للهندسة الكلية للكون.
كانت النتيجة الأكثر احتمالا هي ان الكون مسطح تقريبا.
يعني الكون المسطح تماما أنه لانهائي , اذا كانت شروط المبدأ الكوني تتوفر فيما عدا الشكل الهندسي. اذ ينص المبدأ الكوني على أن الكون متشابه في كل الاتجاهات وهذا صحيح, والفرق فقط هنا ان الكون مسطحا. يمكننا أيضا أن نتخيل ان الكون غير المرئي كبير جدا لدرجة أن الكون المرئي هو جزء صغير جدا منه, كما لو كنا نرسم دائرة صغيرة على سطح بالون عملاق.
التفسير المتحفظ لنتائج الكمبيوتر هو أن الكون غير المرئي أكبر بـ 251 مرة على الأقل من الكون المرئي. اذ يبلغ قطر الكون مسافة 23343 مليار سنة ضوئية ، لكن الباحثين يؤكدون أنه قد يكون أكبر من ذلك, بل أنه كبير بشكل لا نهائي.
بغض النظر عن حجم الكون ، يمكننا التأكد من شيء واحد: إن الكون يكبر. على مدى السبعة مليارات سنة الماضية ، تفوقت الطاقة المظلمة في الكون على الجاذبية بحيث تسارعت عملية التوسع. هذا التطور سيستمر وستهيمن الطاقة المظلمة على الكون أكثر فأكثر. سوف يصبح معدل التوسع تدريجيا أكبر بكثير مما هو عليه اليوم وستتحرك مجرات الكون بشكل أسرع فاسرع.
من المهم هنا أن نتذكر أن المجرة يمكن أن تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء ، والتي هي اعلى سرعة في الكون .وهذا لأن المسافة بيننا وبين المجرات الاخرى لا تكبر فقط لأن المجرات تبتعد عنا ولكن ايضا لأن تلك المسافة نفسها تتسع ايضا مع تمدد الكون.
الأماكن الأكثر بعدا في الكون المنظور ، والتي تبعد عنها 46.1 مليار سنة ضوئية ، وبسبب توسع الكون تبتعد الآن عن جوارنا بسرعة عشرة أضعاف سرعة الضوء .لذلك في المستقبل لن يصل إلينا الضوء الذي يأتي من هذه المناطق .هكذا أيضا ما سيكون عليه الحال مع المجرات الأقرب إلينا اليوم. فانها ستبتعد عنا في النهاية بسرعة كبيرة لدرجة أننا لن نعد قادرين على رؤية الضوء المنبعث منها وفي المستقبل لن نتمكن من رؤية أي مجرات غير مجرتنا.
لذلك يمكننا أن نعتبر أنفسنا محظوظين لأننا نعيش في عصر تطور الكون حيث لدينا رؤية مثيرة للمجرات الحلزونية الغريبة والمجرات الإهليلجية والكوازارات والظواهر الفلكية الغريبة الأخرى. فإذا عشنا في حقبة لاحقة ، فإن كل ما كان يمكن أن نلاحظه سيكون فقط ضمن حدود مجرتنا ، وتماما مثلما اعتقد علماء الفلك قبل مئة عام سنخلص الى ان درب التبانة هي الكون كله!
حصريا لمنتديات درر العراق
لقراءة الجزء الاول, اضغط هنا
مواضيع اخرى ذات صلة:
المادة المظلمة والطاقة المظلمة
الاشعة الكهرومغناطيسية ( Electromagnetic radiation)
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Secluded
