لا تزال الجامعات العربية - باستثناء الجامعات المصرية والجامعات المغربية – غير مهتمة بتكوين جيل من الباحثين العرب والمسلمين الذين يتخصصون بدراسة اللغات الجزيرية (السامية سابقا) وذلك بهدف إنشاء مدرسة عربية أصيلة تدرس هذه اللغات وآدابها انطلاقا الإطار المعرفي للثقافة العربية الإسلامية. ولا تزال هذه الجامعات تتصرف وكأن هذه اللغات لم تكن لغات أسلافنا وأوائلنا، وتنظر إليها وإلى المشتغلين بها بعين الريبة.
إن المشتغلين بهذه اللغات من العرب والمسلمين على ضربين: ضرب مكون تكوينا ممتازا في اللغة العربية وعلومها، فهضم ما درسه في الخارج من هذه اللغات وآدابها، ويجتهد في ربط تلك اللغات وآدابها بالإطار المعرفي للثقافة العربية الإسلامية، وضرب غير مكون تكوينا ممتازا في اللغة العربية وعلومها، فصار يربط العربية بتلك اللغات وأصبح ينظر إلى العربية من خلالها، فجرفه التيار، تيار الجهل أو تيار الشعوبية المحدثة. وهذا التيار الثاني ينطبق على بعض (أقول: بعض وليس كل) أبناء الأقليات الإثنية والدينية في العالم العربي، مع الإشارة إلى أن معظم الناشطين في المواقع الجدلية من أبناء الأقليات الإثنية والدينية، وليسوا من العرب والمسلمين.
لذلك صارت المؤسسات العربية التي تملك القدرة على المبادرة ترتاب في المشتغلين بهذه اللغات. وأدت هذه الريبة إلى عدم تدريس هذه اللغات في معظم الجامعات العربية بهدف تنشئة جيل أكاديمي متمكن من هذه اللغات ومن تراث أوائله لأن الشعوب الجزيرية إنما كانت في معظمهما قبائل عربية! وهذه الفرضية بحاجة إلى تهذيب وتوكيد بالبحث العلمي. ونحن ليس لدينا متخصصون كثر في هذا المجال، لا داخل الجامعات ولا خارجها. والعرب أهملوا هذه الدراسات حتى صرت ترى الأستاذ الجامعي المتخصص في العربية لا يعرف شيئا عن تلك اللغات. وترك العرب مجال البحث فيها لغير العرب الذين بات مثيرو الشبهات لديهم يتحكمون بعقول الشباب العربي عن بعد، وذلك بعد إخفاق مؤسسات التعليم العربية في تحصين الشباب العربي بالعلم النافع لهم ولثقافتهم ولأمن أوطانهم الاستراتيجي على المدى البعيد. وليس هذا الغلام المنبوز بلؤي الشريف إلا مثالا لذلك، فألفاه المغرضون فارغا من الداخل، فنفخوه فانتفخ، ثم برمجوه ولقنوه ما شاؤوا فكرر ما لقن كالببغاء، وشكك بمشاركة بسيطة عشرات الآلاف من الشباب الفارغ من الداخل شرواه في لغتهم ودينهم وتاريخهم. وأنا لا أعرف أمة واحدة، مهما كانت متخلفة ومهما كان رصيدها الثقافي ضحلا، تمكن صبي من صبيانها الأغرار من أن يشكك عشرات الآلاف من الشباب بكلام كاذب مفترى لا أساس له على الإطلاق، بكلام لم يدعيه شخص قبله وذلك على الرغم كثرة من يدعي ويفترى على المسلمين. بل لقد بلغ استخفافه بعقول قومه – إما عن جهل مدقع أو لأنه مُوجَّه - مبلغا صار يقول لهم معه: انظروا إلى هذا الحرف الآرامي، ثم يرسم لهم حرفا عبريا! اسمعوا إلى هذه الكلمة السريانية، ثم ينطق لهم كلمة عبرية! والشباب يصدقونه. لماذا؟ لأن (الأعرج بين المقعدين فرس لا يُشق له غبار) كما يقول المثل. أي لأن هؤلاء الشباب الذين صدقوه، إنما هم مثله: اسفنجة تغب ما يُهراق عليها من ماء دون أن تميز فيما إذا كان ذلك الماء طاهرا أو نجسا.
من المسؤول عن ذلك؟ أقصد: من المسؤول عن كشف العورة الثقافية الشباب العربي والمسلم حتى أصبحوا كالاسفنجة الواهية؟ إنها المؤسسات التعليمية العربية الرسمية وفي مقدمتها الجامعات العربية. إنهم المسؤولون فيها الذين ينظرون إلى الدراسات الجزيرية وما أشبهها على أنها شيء مشبوه ينبغي تجنبه. إن تلك الجامعات والقائمين عليها هم المسؤولون عما يجري من تضليل للنشء، لأنهم لا يعلمونهم ما يفيدهم في إصلاح شؤون دنياهم. وليس لؤي الشريف إلا ضحية للجامعات العربية التي تنظر إلى الدراسات الجزيرية نظرة ريبة وتحول بالتالي دون تدريسها في تلك الجامعات. إنهم هم المسؤولون المباشرون عما يجري من تجهيل ممنهج للـصغار والكبار.
نعم، إنهم الكبار هم المسؤولون عن سلوك أبنائهم، وليس العكس. وإنهم الحكماء هم المسؤولون عن تكوين النشء، وليس الحزاورة الأغرار. وإنهم العقلاء المخلصون هم المسؤولون عن تهذيب التراث من الشوائب التي علقت به، وليس الجهلة والمرتزقة. ولا بد للكبار والحكماء والعقلاء من القيام بدورهم. لا عذر لأحد منهم عن عدم المشاركة في معركة التنوير المعرفي. في أثناء ذلك تبقى المسؤولية واقعة على عاتق المثقف العربي والمسلم الحر من أجل تحرير العقول من الحجب البالية المضروبة عليها، كل بقدر طاقته. ولا عذر – والحالة هذه – لأحد منهم عن التخلف عن المشاركة.