البطاطا.. سرّ الحرب العالمية الثانية!
ليس نادراً أن تجد بيننا في هذه الأيام من يرى أن الحروب والدماء لا تصيب إلا المُسلمين وكأنها حكراً عليهم، لا تُصيب غيرهم، كأننا وحدنا من عانى ويُعاني وسيُعاني.. وكثيراً ما يحلو لبعضنا أن يُصدق هذه النظريّات.
رُبما لأن هذا يُشعرنا بأننا ضحيّة وأن هناك "مؤامرة" تُفسر كُل ما نعيش فيه وهو ما لا يعنيني كثيراً هنا، ولكن الكارثة كُل الكارثة أن نتخيّل أننا وحدنا من نعاني وكأننا لا نعرف شيئاً عن الحرب العالمية الأولى ولا الثانية، وكأن ننظر للألمان وما لديهم من تطوّر مُبهر دون النظر في أيام عجزهم.
هذه المرّة، لن أكتب مُعتمداً على مصادر ألمانية، فقد وقع بين يدي كتاب فريد بديع لصحفي لبناني فرّ من بلاده بسبب نشاطه في دعم حركات مُناهضة الاحتلال – قبل استقلال لبنان – وجعل يدوّن رحلة خروجه من بيروت في 8 حزيران 1941 إلى أن وصل تركيّا وكيف اُجبر لاحقاً على مغادراتها إلى بلغاريا حيث أقام فترة واُعجب فيها وبثقافة أهلها القريبة من أهل الشرق ثم كيف أجبرته المخابرات النازيّة على السفر إلى النمسا والعاصمة فيننا التي طالما أحبها وحلم بزياراتها وأخيراً كيف ساقه القدر إلى برلين التي زارها أكثر من مرّة لاحقًا، بيد أن ليلة 22 تشرين ثاني 1943 حين وجد القنابل تناهل عليه كالمطر وراح يبكي ويرتجف إلى أن نجى بأعجوبة.
ذلك الكتاب هو " بيروت برلين بيروت – مشاهدات في اوروبا وألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية 1941 – 1942″ وأما صاحب المُذكّرات فهو فقيد الصحافة العربيّة الذي اغتالته المخابرات المصريّة عام 1966 وهو "كامل مروّة"، وسواء كُنا نتحدث عن الكتاب أم الكاتب فإن كلاهما يكاد يكون مجهولاً اليوم، تماماً كجهلنا بأن هناك من أبناء جلدتنا من زار أوروبا في أيام الحرب العالمية وكتب بقلمٍ عربّي عن تفاصيل دقيقة وبشكل مثير وشيّق يستدعي الوقوف عنده.
كأن الكاتب لم يكن يصدق ما تراه عيناه عن أوروبا التي لطالما سمع عنها وعن نهضتها فراح يكتب ويُفصّل فرحة فتاة نمساوية بعُلبة صابونة أصليّة أهداها إياها وكيف أجهشت بالبكاء لأن الحكومة الألمانية كانت توزّع على الناس صابوناً رائحته كريهة جدًا
لم يكتب كامل مروّة عن التفاصيل المملة التي نقرأها في الصحف وكُتب التاريخ غالباً، لا أبداً، بل نجده يشرح تارة كيف اجتمعت حوله فتيات ألمانيّات "كأنه اعجوبة القرن العشرين" لأنه "عربي وأبيض" وفي زيارة لألمانيا بعيداً عن "الجمل والصحراء" و"قصور ألف ليلة وليلة" ثم يحدثنا تارة أخرى عن مُعاناة هؤلاء الفتيات مع الرجال حيث انتقل جُلهم إلى الجبهة فصارت النسبة بين الجنسين في المدن إلى "رجل لكل ثلاثين أو أربعين امرأة"، ولا يتورّع أن يُحدثنا عن هجر الألمانيّات للمكياج في أيام الحرب أو كيف كانت بعضهن تُبرر الإباحيّة ومُعاشرة الجنود بحجّة خدمة الوطن..!
كأن الكاتب لم يكن يصدق ما تراه عيناه عن أوروبا التي لطالما سمع عنها وعن نهضتها فراح يكتب ويُفصّل فرحة فتاة نمساوية بعُلبة صابونة أصليّة أهداها إياها وكيف أجهشت بالبكاء لأن الحكومة الألمانية كانت توزّع على الناس صابوناً رائحته كريهة جدًا ولا تُطاق، ويشرح شرحَ المُندهش كيف كانت السجائر عزيزة جداً لأنها اعتبرت من الكماليات وأغلقت مصانعها حتى دخلت السوق السوداء وصار بالإمكان مُبادلة السجائر مع الملابس أو حتى اللحوم، كما يبيّن أن سوء الأحوال جعل بعض الناس يستبدلون "معطف من الفرو الثمين بكيلو واحد من القهوة"، وحتى الشوكولاتة لم تكن تختلف عن القهوة، ويكفينا أن نقرأ كيف أعطى أحد "الألمان" لوحاً من الشوكولاتة كهدية، فراح الرجل يشكره قائلاً: "إن ابني -المريض- سيشفى بمجرد رؤية الشوكولاتة، إذ حرمته الحرب منها 3 سنوات".
في تاريخ 19 نيسان 1942م، كانت المخابرات الألمانية قد سمحت لكامل مروّة بالسفر إلى برلين لـ24 ساعة فقط، وفي القطار من فيننا ركب معه ألمانيًا في الستينات من عمره يختلف عن غيره من الألمان ممن يتحفظون كثيراً في الحديث عن الحرب، وكانت تلك بالنسبة لصحفي مثل "مروّة" فرصة عظيمة أن يجد من الألمان من يفضفض عن الحرب وأسبابها، كيف لا وقد راح الرجل يشرح بإسهاب:
" لقد قرأت في الكُتب أنكم تعيشون في الشرق عيشة الرفاهية. أليست قُصور «ألف ليلة وليلة» في بلادكم؟ إنكم تنعمون بأطايب العيش، أما نحن فقد شبعنا من البطاطا. لقد حارب أجدادنا للتخلص من البطاطا، وحارب جيلنا في سبيل الغاية نفسها وها هم أولادنا يُحاربون أيضاً… لا يجوز أن يعيش مائة مليون ألماني على البطاطا بينما بضعة ملايين إنجليزي ينعم بخيرات الأرض. نحن نغطي سقوف منازلنا بالتراب لنزرع فيها القمح والبقول، وغيرنا يملك ملايين الهكتارات. كلا لقد شبعنا من البطاطا"
لم ير كامل مرّوة في هذا الكلام أي مُبالغة، بل وجد في الكلام حجّة معقولة بالأخص أنه اُتخم من البطاطا في إقامته في فيننا، ويشير أن وزير الدعاية النازي كان يُروج دائماً أن الألمان هم ضحيّة إلا مرّة واحدة صرّح فيها قائلاً: "نحن نحارب لأننا شبعنا من أكل البطاطا"، ويشير مروّة إلى حقيقة مُدهشة مفادها أنه لولا البطاطا ما بلغ عدد الألمان ما وصل إليه لأنها كانت تسد عجز البقول والحبوب عند المجاعات، كما يُشير إلى "الألمان هم أكلة البطاطا رقم 1"!
ختاماً، إن حكاية الألمان مع البطاطا لم تنته مع الحرب، فقد أكلوا منها في سنوات "الدمار" وما بعد الحرب حتى شبعوا واتخموا ويبدو أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من طعامهم وسواء كانت البطاطا هي سببًا من الأسباب الفعلية للحرب العالمية أم لا، فالأولى بنا وقبل أن نحكم بأننا أكثر شعوب الأرض مُعاناة.. وأن أحداً من العالمين لم ير ما رأينا من "العذاب" أن نقرأ عن حكاية الألمان مع البطاطا والقهوة والصابون والسجائر كما لا بُد وأن نقرأ لأمثال كامل مروّة وهو يدوّن معاناة شعوب أخرى.. كي نُدرك حقاً أننا لسنا مركز الكون وأن الأفلاك لا تدور حولنا، وأن صدق الله في قوله:
" وتلك الأيام نداولها بين الناس لعلهم يتفكرون"