هكذا حجبَ عنّا النّحاةُ من خلالِ قواعِدِهم القاصرة– كثيرًا من القيم اللّغويّة والبلاغيّة التي تمتلئ بِها القراءاتُ القرآنيّةُ و نُصوصُ الحديثِ النّبويّ و كثيرٌ من الموادِّ اللّغويّة المبثوثة في بطونِ كتبِ اللّغةِ و الأمثالِ و الأخبارِ، وبنوا على الوارِدِ من الشّواهدِ ، ففرضوا بقواعدِهم الصّارمةِ غرْبَةً على لسانِ العربِ و على المتكلّمين الذين خَلَفوا من بعدِهم على مرِّ التّاريخ .
ولقد أصبحْنا أمام هذا الوضعِ الذي أَلزَمت به قواعدُ النّحاة لسانَ العربِ، وإزاءَ هذه الغربةِ التي فرضتْها عليه ، في حاجةٍ إلى "نَحْوٍ جديدٍ" يفكُّ الطّوقَ عن اللّسانِ ويُحرِّرُه من قيودِ القواعدِ الصّارِمةِ ، و يُطْلِقُ العنان لمادّةٍ لغويّةٍ ضخمةٍ، ما زالت حبيسةَ المصادِرِ .
وقد تنبّه كثيرٌ من العلماءِ منذ القديم إلى قصورِ هذه القواعد، منهم شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ، وفخر الدّين الرّازي المفسِّر ، و أبو حيّان النّحويُّ الأندلسيّ صاحبُ تفسير "البحر المحيط" ، و أبو عمرو الدّاني المُقْرِئ ، و ابنُ حزمٍ الظّاهريّ صاحب "الفصلِ بين الأهواءِ و الملل و النّحل"، و الحريري صاحب "درة الغوّاص في أوهام الخواصّ"، و ابنُ المنير صاحب "الانتصاف من الكشّاف"، وجلال الدّين السّيوطي صاحب "الاقتراح في أصول النّحو"، وغيرُهم ...
و نادى كثيرٌ من الباحثين المعاصرين بوضعِ نحوٍ جديدٍ للعربيّة يُدرِج في الاستشهادِ النّصوصَ الكثيرةَ التي أهمَلَها النّحويّون [نادى كثيرٌ من الباحثين بوضعِ نحوٍ جديدٍ للعربيّة يُدرِج في الاستشهادِ النُّصوصَ الكثيرةَ التي أُهْمِلت من قبل النّحويّين ، انظر : [نظريّة النّحو القرآنيّ] في اتِّجاه وضعِ خطّةٍ عمليّةٍ لتطبيقِ "نحوٍ قرآنيّ" بعد تعديلِ القواعدِ التي تحتاج إلى تعديلٍ حتّى تُسايرَ النّصَّ القرآنيَّ المُحْكَمة : د. أحمد مكّي الأنصاري ، و [من سعة العربية / هل من "نحوٍ جديد ؟" ، ص:205] د. إبراهيم السّامرّائي]
أجَل، نادَوْا بوضع نحو جديد للعربية يُدرجُ في الاستشهاد النصوصَ الكثيرةَ التي أهمَلَها النحويونَ، ويوسِّعُ القواعدَ حتّى تُصبِحَ ذاتَ طاقةٍ استيعابيّةٍ عاليةٍ ، و قدرةٍ وصفيّةٍ و تفسيريّةٍ لِلِسانِ العربِ شاملةٍ ، و ليس هذا النّحوُ الجديدُ سوى إعادةِ بناءٍ لنحوِ النّحاةِ المألوفِ و إجراءِ تعديلٍ واسعٍ في قواعدِه التي تصطدمُ بالنُّصوصِ اللّغويّةِ الفصيحةِ كالقراءاتِ السبعيّةِ ، حتّى يستقيمَ و يسهلَ تحصيلُه و تعلُّمُه [انظر مواطن الاتّفاق بين قواعد النّحاة و بين القراءات القرآنية و نماذج من الحديث النّبوي ، و مواطن الاختلاف و التّعارض ، و ضرورة تعديل القواعدِ و توسيعِها حتّى تعبّرَ بصدقٍ عن اللّسان العربيّ ، و يُفَكَّ عنها طوقُ الغربةِ الذي فُرِضَ عليها منذ قرون ... و اقْتِراحاتٍ منهجيّةً أوردَها الأستاذان أحمد مكّي الأنصاري وإبراهيم السّامرّائي في كتابَيْهِما المذكورينِ آنفًا.]
ثمّ إنّه يمثِّلُ أعلى مراتبِ القواعدِ فصاحةً وبيانًا ؛ لأنّه يتأسّسُ على لغةٍ نالت حظًّا وافرًا من التّهذيبِ و الصّقل ، و التّشذيبِ و التّصفية والتّطويرِ ، حتّى أضحت على رأسِ اللّهجاتِ العربيّةِ الفصيحة[*]، وأصحِّها نُصوصًا و أوثقِها سَنَدًا ومتنًا وأدقِّها تعبيرًا عن المقاصدِ القريبة والبعيدة. [انظر ما ذكره أ.د. فخر الدّين قباوة عن "النّحو القرآني" في حديثه عن وظيفة القرآن الكريم في الدّرس النّحوي و تكوين المهارات اللّغوية، في كتابه : [المهاراتُ اللّغويّة و عُروبةُ اللّسان: 93-...]]
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
* ذكر عُلماءُ اللّغةِ قديمًا و رُواةُ الشّعرِ و العارِفون بلغات العربِ و أيّامِهم و محالهم أن قُرَيْشًا أفصحُ العربِ ألسنةً و أصفاهم لغةً، و كانت وفودُ العربِ يفدون إلى مكّةَ للحجّ و يتحاكمون إلى قريشٍ في دارِهم. و كانت قريش مع فصاحتِها و حسنِ لغاتِها ورِقّة ألسنتِها إذا أتتهم الوفودُ من العربِ تخيّروا من كلامِهم و أشعارِهم أحسنَ لغاتِهم ، فاجتَمع ما تَخيّروا من تلك اللّغاتِ إلى سلائقِهم التي طُبِعوا عليها، فصاروا بذلك أفصحَ العرب . انظر: [الصّاحبي في فقه اللّغة] لابن فارس ، و [المزهر] للسيوطي.