تمتلئُ كُتُبُ التّفسيرِ بِما لا يَكادُ يُحْصى من التَّخْريجاتِ النَّحْويّة و الأعاريبِ المُقَدَّرَة ، التي أثْقَلَ بِها كَثيرٌ من المُفَسِّرين كاهِلَ الآياتِ القُرْآنيّةِ ، ممّا هي في غِنىً عنه ، حيثُ أثاروا مُشْكلاتٍ نحويّةً قدَّروها تقديرًا ، و فَرَضوا على النّصوصِ البليغةِ قَواعدَ و مُقَرَّراتٍ مُتَكَلَّفَةً .
من ذلك قولُهم في قولِه تَعالى : «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى» إنّ اللاّمَ في (وَ لَسَوْفَ) إن كانت للقسَم لا تَدْخُلُ على المُضارِع إلاّ مع نونِ التّوكيدِ ، و إن كانت للابْتِداءِ فإنّها لا تدخُلُ إلاّ على جملةِ المبتدَإِ و الخبر ، فإذا كانت الآيةُ لا تستجيبُ للقاعدةِ النّحويّةِ فإنّه يتعيَّنُ تقديرُ ما به تَسْتَقيمُ الصَّنْعَة ؛ فقد ذَهَبَ جارُ الله الزّمخشريّ في "الكَشّاف" [الكَشّاف عن حَقلئق التّنزيلِ و عُيون الأقاويل: 4/219] جار الله محمود بن عُمَر الزّمَخشريّ ، دار الفكر ط.1 / 1397-1977]، إلى أنه «لا بُدَّ من تَقديرِ مبتدإ محذوفٍ، وأن يكونَ أَصلُ العبارة : و لأنت سوفَ يُعطيك ربُّك فَتَرْضى» [سورة الضحى:5] ، وإلى مثلِ ذلك ذَهَبَ أبو حيّانَ النّحويُّ المُفَسِّر في كِتابِه "البَحْر المُحيط" .
فالعِبارةُ القُرآنيّةُ على قدرٍ كبيرٍ من البَيانِ و البلاغةِ ، و لا تَحْتاجُ إلى تَقْديرِ لفظٍ مَحذوفٍ أو تأويلٍ أو زِيادةٍ أو نُقصان ، و هي حُجّةٌ في ذاتِها و أصلٌ تُعْرَضُ عليه كلُّ قاعدةٍ لُغَويّةٍ ، و لا تَحْتاجُ إلى تَقْديرِ أصلٍ مَوْهومٍ نَقيسُها عليه .
وممّا ذَكروه أيضًا في الآيةِ نفسِها ، قولُهم : كيفَ تجتمعُ لامُ التّوكيدِ مع سوْفَ التي تُفيدُ التّسويفَ والمُماطَلَة؟ و الجوابُ أنّ العَطاءَ حاصلٌ لا مَحالةَ، و لا يَتَخَلَّفُ و إن تأخَّرَ لِما في التّأخيرِ من مَصلَحة. والظّاهرُ أنّ حسَّ العربيّةَ ومألوفَها، يقضي بأنّ العبارةَ القرآنيّةَ ، تُفيدُ أنّ البيانَ يتّسقُ هنا و يتكاملُ بلفظِ "سوفَ" ، إيناسًا للرّسولِ صلّى الله عليه و سلَّم ، بأنّه كانَ و سَوْفَ يظلُّ موضعَ عنايةٍ من ربِّه سُبْحانَه [انظر في تفصيلِ هذا المعنى : [التَّفْسير البياني للقرآن الكريم: 1/40-41] د. عائشة عبد الرّحمن، دار المعارف ، القاهرة ، ط.5 / 1397-1977]
وممّا ذكَروه أيضًا أنّ "إذا الشّرطيّة" لا تدخُلُ على الجملةِ الاسميّةِ ، و هي واردةٌ في كثيرٍ من آياتِ القرآن ، نحو قولِه تعالى : «إذا السّماءُ انْشَقَّت» [الانشقاق: 5] ، فتأوّلوها بأنّ الاسْمَ المرفوعَ هو فاعلٌ لفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّرُه المَذكورُ ، و التّقديرُ : إذا انشقَّت السّماءُ انشقّت ، و الحقيقةُ أنّ تقديرَ أصلٍ مَوْهومٍ لهذه العِبارةِ ، لا يُصلِحُ العبارةَ و لا يُقيمُها ، و لكنّه يُخْرِجُها عن أصلِها و سَلامَتِها و جَمالِها ، و لا يميزُ بين "إذا الشّرطيّةِ" التي دَخَلَت على الفعلِ ، و "إذا الشّرطيّة" التي دَخَلَت على الاسمِ المرفوع ؛ فلكلِّ مَقامٍ مقالٌ ، و لكلِّ لفظٍ مَعنى .
والأمثلةُ على تأويلاتِ النُّحاةِ للعباراتِ القُرْآنيّةِ أكثرُ من أن تُحْصى ، امتلأت بها كُتُبُهم و تَفاسيرُ كثيرٍ من المُفَسِّرينَ ذَوي المَنْزع النّحويّ .