- التنبيه على عدم كفايَة نحو الجملَة في تحليل الكلام والنصوص، وأن المباحث اللسانيةَ الحديثة انتقّلَت اليومَ من لسانيات الجملَة إلى لسانيات النص، التي تركز على أنّ النص وحدة لغوية مؤلَّفَة من أكثر من جملَة، شريطَةَ أن يَكونَ بين الجمل والكلمات والعبارات وجميع وحَدات النص: تماسُكٌ لغوي نحوي تركيبيّ، وانسجامٌ دلالي فكري منطقي، ووظيفة تواصليّة، فإن غابَ التماسُك والانسجام والوظيفَة التواصلية أو المقاصد تفكك النص.
- أهمّ معيار من مَعايير النصّ تلك الشروط التي وَضَعَها دي بوغراند [النص والخطاب والإجراء، ترجمة د.تمام حسان]، التي لا يقوم النص إلاّ بوجودها، وتؤدي إلى حصول التماسك النحوي والانسجام المنطقي، وهذه المعايير: الترابط النحوي، والانسجام المنطقي، وخضوع النص لمقاصد المتكلم، وخضوعه لقَبول المتلقّي، وارتباطه بمقام الكلام أو السياق، والإفادَة، والتّناصّ.
- إذا انتقلْنا من التعريف بشروط قيام النص منذ عهد أوائل اللسانيين النصيين ومروراً بدي بوغراند ثم وصولاً إلى هاليداي وصاحبه، وفان دايك... إذا انتقلنا من النظريات النصية إلى دراسة نص عربيٍّ ما، وتطبيق بعض الأدوات التحليلية عليْه؛ فسنجدُ أنّ المطلوبَ استخراج كل الروابط النحوية والبلاغية التي تشد الكلمات لتصير جملَة وتربط بين الجمل لتصيرَ نصاً.
- مثلاً لنأخذ قصيدةً من قصائد كتاب الأمالي لأبي علي القالي، هي قطعَة من شعر معن بن أوس أعجِبَ بها الخليفةُ الأمويّ عبدُ الملك بنُ مروانَ:
وذي رَحِمٍ قَـــلَّـــمتُ أظــــفـــارَ ضِــــــغْنِه
بحـــلـــمــي عـــنه وهـــو لـــيس له حِــــلم
يُحـــاولُ رَغــمـــي لا يحـــاولُ غــــــيـــره
وكـــالمـــوت عـــندي أن يَحُلَّ به الرَّغْم
فإن أعْـــفُ عـنه أُغــــضِ عَيْناً على قَذى
وليس له بالصــفـــح عــن ذنــبـــــه عِلم
وإن أنـــتـــصـــر مـــنه أكُنْ مثل رائشٍ
ســهـــامَ عَــــدُوٍ يُــستهاض بها العظم
صـــبرتُ عــــلى مــــاكان بــيني وبينه
وما تــســـتــوي حــــربُ الأقارب والسلمُ
وبادرتُ مـــنه النـــأيَ والمــــرءُ قـــادر
عـــــلى ســـهـمه مادام في كفهِ السهمُ
ويَشْتمُ عـــرضِي فـي المُــغَــــيَّب جاهدا
وليـــس له عـــنــدي هــــوانٌ ولا شَـــــتْمُ
إذا ســــمــــتُه وَصْـــلَ القــرابة سامني
قـــطـــيعــتها تلك الســفـــاهـةُ والإثمُ
وإن أدَعُــهُ للنِّــصـــف يــــأبَ ويَعــصني
ويـــدعُو لحُــــكْم جـــائــــر غَيْرهُ الحكم
فلولا اتــــقــــاءُ الله والـــــرحـــــــمِ التي
رِعــــايـــتُــها حـــقٌ وتَعـــطـــيلُـها ظُلمُ
إذاً لعـــلاهُ بـــــارقــي وخَــطَـــمْـــتُــــــــ هُ
بـــوســـم شَــــــنَــــارٍ لا يشاكهُه وَسمُ
ويــســـعــى إذا أبــنــي ليـهدم صالحي
وليس الذي يبني كمـــن شأنه الهدمُ
يـــودُ لو أنــي مُـــعْـــدِمٌ ذو خَـــصَـــــاصةٍ
وأكــــــره جُـــــهــدي أن يُخالطه العُدْمُ
ويَعـــتَدُّ غُـــنْــماً في الحوادث نَكبتي
وما إن له فـــــيـــهــــا سَــــنَاءٌ ولا غُــنْمُ
فــمــــا زلــــت فـــي لـــيني له وتعطفي
عــــلــيه كــــما تـــحــــنو على الولد الأمُ
وخـــفـــضٍ له مـــنـــي الجــــناح تــــــألفاً
لتـــــدنــــيـــــه مني القـــــرابةُ والرِّحْمُ
وقــــولي إذا أخــــشى عـــلــيه مـــصيبة
ألا اســلم فـداك الخالُ ذو العَقْد والعَمُّ
وصــبري على أشــــياءَ مــــنه تُـرِيبُني
وكظمي على غيظي وقد ينفع الكَظمُ
لأســـتل مـــنه الضِّــغــن حتى استللتُه
وقـــد كــــــان ذا ضِغْنٍ يضيقُ به الجِرْمُ
رأيتُ انْثلاماً بـــيـــنـــنا فـــرقـــعـــته
بـــرفقي وإحــــيائي وقـــد يُـرقْعَ الثَلمُ
وأبــــرأتُ غِلَّ الصَّـــــدْر مـــــنه تَوَسُّعـاً
بحلـــمي كـــما يُــشفى بالأدْوِيَة الكَلْمُ
فـــــداويتـــــه حـــــتى ارْفَـــــأَنَّ نِـفاره
فَــــعُــــدنا كأنا لم يــكن بيننا صَرْم
وأطفـــأَ نــــار الحــــرب بـيـنـي وبينه
فأصــبــح بــعــد الحـــرب وهـــو لنا سَلْمُ
[كتاب الأمالي، لأبي علي القالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ج:2، ص:101-102-103.]
هذا النص الشعريُّ جديرٌ بأن يُحلَّلَ بأدواتٍ تَكشفُ مَواضعَ التماسُك والانسجام، وأهمّ الأدواتِ النّحوُ أولاَ، ثمّ الصرفُ ثمّ البلاغَةُ والدّلالاتُ المعجميّةُ، فلا يَسَعُنا ونحن نفكك النصَّ ونكشفُ أجزاءَه ومؤلِّفاتِه اللغويّةَ لنخلصَ إلى مؤلفاته البلاغيّة والدّلاليّةِ والمَقاميّةِ، إلاّ أن ننظر في الروابط اللغوية النحويّةِ التي في القصيدة، أولاً :
الروابط النحوية: الروابط النحوية كثيرة الأنواع والأصناف، منها المبهماتُ وهي الضمائر وأسماء الإشارَة وأسماء الموصول وأسماءُ الشرط والاستفهام والأدواتُ، ومنها حُروف المَعاني... ومنها القرائنُ المعنويّةُ غيرُ اللفظيّة الدّالّةُ على مَعْنىً وَظيفيّ مُقدّرٍ مفهومٍ من السّياق.
ومن الأمثلَة على ذلك في القصيدَة: روابط الجملة الواحدَة:
نحو: واو رُبّ التي تفيد في البيت الأول التكثيرَ، ثم ضمير المتكلم في (قلمتُ) فهو يعود على المتكلم الشاعر معن بن أوس، وليسَ اسماً سَبَق ذكْرُه فيُحال عليْه، ولكنّ نسبةَ الشعر إليه تدل عليْه، فاللبسُ مأمون. ويأتي بعدَه الضمير في (ضغنه) الذي يَعودُ على ذي الرّحم، ليُفيدَ صفةً من صفاتِ المُتحدَّثِ عنه، وهي سوءُ أخلاقه وكثرةُ ضغائنُه. والباءُ في قوله (بحلمي) جارَّةٌ تدلّ على الاستعانَة. و دلَّ بالحلم على أداة التَّقليم أظفار الضغن، وهي أداة مجازية؛ فجاء بصورة شعريةٍ مركَّبَة حيثُ استعارَ للضّغن أظفاراً تنشب في النفوس وتؤذيها، ثمّ شبّه استلالَ الضّغنِ من نفسِ قريبه بمَن يُقلّمُ أظفاراً خشيةَ الخدش والإيذاء. أما الجار والمَجرور: عنه فحرف الجر يدلّ على المُجاوزَة المكانية المَجازيّة أي مُجاوزاً قَريبَه . وضمير الغائب المنفصل (هو) رأس الجملَة الحاليَة، ويُحيلُ على ذي الرحم، وقَد وقَعَ ههنا مبتدأ بٌؤرةً في الكلام، أما قولُه: (وهو ليسَ له حلم) اللام ههنا للاستحقاق، والحصيلَة نفيُ استحقاق الحِلم في الحال .
هذا أنموذج للروابط داخلَ الجملَة، ووظيفةُ تلك الروابط تهيئة الجملَة لتكونَ متماسكةً مأتلفةَ الأجزاء، حتى توصَلَ بالتي بعدَها وتُحيلَ على التي قبلَها.
أمّا ترابُط الجمل فلَه صور كثيرة؛ منها أن تأتي جملةٌ ما مركبةً من جملَتَيْن؛ كما في البيت الأول من القصيدَة: (وذي رحم قلمتُ)... فهي جملةٌ اسميّةٌ كبرى مركبةٌ من المبتدأ والخبر الذي هو جملَة (قلمتُ)، والرابطُ بين الجملَة الصدر والجملَة الصغرى الضمير الهاءُ في (ضغنه) الذي يَعود على المبتدأ، ثم تأتي جملَة اسمية كبرى مركبَة من الضمير المنفصل المبتدأ، والخَبَر جملَة اسمية صغرى (ليس له حلم)، والرابط الضمير المتصلُ الهاء في (له).
من روابط الجملِ ألفاظٌ تُفيدُ بؤرَةَ القصيدَة وهما الشاعر وذو رَحِمِه؛ فكلّ ما أشارَ إليْهما أو رَجَعَ إليْهما أو كنّى عنهُما فهو من الروابط العامّة التي تضمنُ للقصيدَة تماسُكها وبنيويتَها، وأبرزُ سلكٍ ينتظمُ تلك عِقْدَ المَعاني سلكُ الثنائيّاتِ أو الموازَناتِ المتضادّة أو المُتقابلَة: [حلمي عنه/ليسَ له حلمُ]، [يُحاولُ رَغمي/كالموت عندي أن يحلَّ به الرَّغمُ]، [يشتمُ عرِضي/ليسَ له عندي هوانٌ ولا شَتم]، [سُمْتُه وَصلَ القَرابة/سامَني قَطيعَتَها]، [إن أدْعُه للنّصفِ/يأبَ، ويَدْعو لحُكم جائرٍ] [يَسْعى إذا أبْني/ليَهدمَ صالحي]، [يودُّ لو أنّي مُعدمٌ ذو خصاصةٍ/أكره جهدي أن يُخالطَه العُدم]. وقَد عبَّر عن هذه الموازَنات بألفاظ وأدواتِ تدلّ عليْها، كالإثبات والنفي، وألفاظ تدلّ على الإحسان وأخرى تدلّ على الإساءَة، ومنها ما يدلّ على الوَصلِ في مقابل القَطيعَة، كَما في مُقابَلَة جملة أدعو بجملة يأبى، ومُقابَلَة جملة يودُّ عُدمي بجملة أكْرَه عُدمَه.
انسجامُ المَعاني والأحداث ووحدتُها:
يؤلِّفُ الشّاعرُ وذو رحِمِه بؤرةَ القَصيدَةِ وذروةَ سَنامِها ومركَزَها، وتتوزَّعُ من خلالِ هذه البؤرةُ خُيوط شباك القصيدَة، فالقيمُ اللفظيّةُ والمعنويّةُ كلُّها تخدمُ البؤرةَ وتوحِّدُ أجزاءَ القصيدةَ: فقَد توزّعَت على تلك الشبكَة طائفةٌ من الأفعال التي تدلّ على طائفَة من الأحداث، وقُيِّدَت تلك الأحداثُ بقُيود الأحوالِ والصّفاتِ والظّروف، وأمّا الزّمانُ فينتظمُه الماضي والحاضر، ففي الزّمَن الماضي كانَ الحَدَثُ الكبيرُ أو عُقْدَة الحكايةِ، وهي ظلمُ ذي الرّحمِ للشاعر وإضمارُه له الضغينةَ والكراهيّةَ، واستمرَّ ذلِكَ حتّى الحاضر، ليجدَ الانفراجَ وينتهيَ بعدَ مُعالجاتٍ وصبرٍ واحتمالٍ، وينتقلَ حالُ ذي الرحم إلى ما سَعى إليه الشّاعر من استلالِ الضّغنِ وإطفاءِ نارِ الحَرب.
فهذا أنموذجٌ من نماذج النّظرِ إلى النصّ من خلالِ الرّوابط النّحويّةِ والمعنويّة؛ لأنّ تلك الروابطَ شرطٌ من شروطِ بناءِ النصّ، ولا يُسمّى النصُّ نصاً بمَعنى النّسيج إلاّ إذا تحقَّق له شرطُ الربط والتّضامّ لفظاً ومَعْنىً.