الطائفية لم يخلقها الله, بل صنعها الأنسان
للمرة الثانية يلاحظهم ذلك الرجل الحمال في سوق الخضار وهما يتناقشان بحدة وشجر! فأقترب منهما بخطاه والتي بدى عليها واضحاً كبر عمره ليعرف ما أمر هذين الشابين اللذان تركا ما جلبـا من محصول لبيعاه، وأنشغلا في ذلك النقاش!
حتى وصل إليهما وسمع جزء من حوارها دون أن يلتفتـا إليـه. أنه حوار ديني! والظاهر أن الشابين هما على مذهبين مختلفين. فقال لهم بصوت هاديء : يا ولداي، هل جئتما للعِراك أم لبيع ما جهد به عيالكم وينتظرون جائزتـه؟!
فقال له أحدهم : يا حاج، أين رأيتنـا نتعارك؟! نحن نتناقش فقط . ونظر الآخر للشيخ غاضبـاً و مؤيداً لكلام صاحبه.
فقال الرجل المسن : إن كان العِراك بالأيدي هو كل ما تريانه من عِراك! ولا أشكال في غيره!
إذاً سأسبكم وأشتمكم لأنكم أزعجتماني وسلبتما راحتي .
فقال الآخر (والذي كان ينتظر بلهفة دوره بالكلام) : أراك شيخٌ خَرف! كيف تسبنـا
وتشتمنـا! ولماذا؟!
فقال له الشيخ : لأن السب والشتم -وحسب قاعدتكم- لا يقع ضمن العِراك، بل يقع ضمن النقاش، فأحببت مناقشتكما، لأنها مناقشة مثمرة.
فقال الأول : ما أغربك من عجوز ! ربما ذهب العمر بما تبقى من عقلك ! ومتى
رأيتنـا نسب ونشتم بعضنـا! ثم تأتي وتقول مناقشة مثمرة!!
أمادحٌ أنت أم ذامٌ وناقد !؟
فقال له الشيخ : نعم أنها مناقشة مثمرة للشيطان يابني، وبالنسبة للسب والشتم في
ما بينكما، أنتما جئتما بما هو أسوء. نعم ..
أنتما تسبان ما يُقدس ويحترم بعضكمـا،وهو أمر أشد قسوة من ذلك السب الموجه
للشخص نفسه .
أنت تطعن وتنسب الرذائل لمن يعتقد بطهارتهم، ويتبع قولهم، وهو بالتالي يفعل ما
تفعل. حتى أخذتكم الرذيلـة الى قاعها النجس،
فجرت في دمائكم البغضـاء .
فهم الرجلان بضرب الشيخ! ومنعهم الحاضرون والذين نصحوا الشيخ بالكفاف عنهم وتركهم.
فقال : كلمة أخيرة أحببت قولهـا لكم وللحاضرين. إن الناس صنفان،صنف باحث عن الحقيقة -بغض النظر عن دينه ومذهبه- وصنف
غير مبالي بها.
فأما الأول فهو يبحث عن الحقيقة لينظم بها حياته وسلوكه ويعرف مستقبله.
وهو لا يخجل كونه لم يدركها قبل ذلك، بل كل همه نوالهـــا . نعم .. سواء وجدها عندصغير أم كبير، عند أنسان أو حيوان،
عند متحرك أم جماد.
الحقيقة هي غايته السامية وهدفه الأول، لذلك يكون هذا الانسان سهل النقاش، وسريع الوصول للحق، وكذلك إيصاله للآخرين إن وجده .
أما الصنف الثاني (والذي أنتما منه) فهو يكون أقرب للجحود منه للمعرفـة، بل ينفي ما يثبته العقل ، ويثبت ما ينفيه- جهلاً وعناداً وتخبطاً- لأنه غير مهتم ولو بنسبةقليلة بمعرفة الحقيقة .
أرى إن محصولكم قد فسد! فأرجعوا به خائبين ، وأطعموا عيالكم نقاشات هوجاء مُغمسـة بالحقد الطائفي .
جواد الزهيراوي.. من كتاب مشاهد بين الأزقة والقُرى
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Suzana
