استعارةُ لسانِ قومٍ احتباسٌ في نَفَقِ نسَقِهم واغْتلاقٌ في ضيقِ أفُقِهم، الخطابُ المُتَداولُ في كلّ أمّةٍ لسانُ ثَقافتها ومنهجُ تَفكيرِها قبلَ تَعبيرِها، إيجاباً وسلباً؛ فأمّا الخطابُ الموجبُ فهو لسانُ القومِ الأمُّ الناطقُ عنها، غيرُ المُستعار ولا المُستوْرَد، وأمّا الخطابُ السالبُ فهو اللسانُ المُستعارُ من أمّة أخرى والمُستورَدُ من شعبٍ آخَر ذي ثقافةٍ مختلفةٍ قد يبلُغُ اختلافُها ومُباينتُها لثَقافةِ المُستَعيرِ المُستوْرِدِ حدّ التّناقُضِ، وقد يَكونُ هذا الاختيارُ أو الاضطرارُ إلى استعارةِ ألسنةِ الغيرِ، سبباً في هَلاكِ الأمّةِ وانقراضِ فكرِها وبُيودِ ثَقافتها.
فخطَرُ القضيّةِ يبدأ من مُستصغَرِ الاستعارةِ ليصلَ إلى مُعظَمِ شررِها؛ يبدأ من المُصطلحاتِ المُتداولَةِ في أوساطِ الحياةِ العامّةِ وفي البيئاتِ الثّقافيّةِ والمؤسَّساتِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ والثّقافيّة والتّعليميّةِ، بل في الشأنِ العامّ كلِّه، فما من مُصطلحٍ مُتداولٍ في هذه المجموعاتِ المُتباينةِ -من أولِ قَطرٍٍ إلى مُنْهَمِل- إلاّ ويُخفي خلفَه مَفْهوماتٍ ذهنيّةً هي أساليبُ تفكيرٍ وطرُقُ اختيارٍ ومُيولٌ وأذواقٌ، فإذا أطْلِقَ اللفظُ اقتُطِعَ من عالَمِ المَفاهيمِ قطعةٌ ذاتُ أبعادٍ وأشكالٍ وصورٍ ومَعانٍ ومَذاهبَ في القولِ والفعلِ والحياةِ، وكانَ اللفظُ من تلكَ المفاهيمِ والمَعاني بمَثابةِ الكُوّةِ التي تُطلعُ الناطقَ باللفظِ المُتداوِلَ له على ما يُريدُه له اللفظُ ويدلُّه عليْه لا غير، وتُخفي عنه ما غابَ عن الدّلالَةِ ولم يَدخلْ في حيِّزِها.
يتحصّلُ من ذلك كلّه أنّ فكرَ الأمّةِ وأسلوبَ حياتِها وثقافتها سجينُ نسَقِ المَفاهيمِ المُتداوَلَةِ المَدْلولِ عليْها بالألفاظِ المُستعملَةِ فالألفاظ والعباراتُ والمُصطَلحاتُ تُنشئُ نظاماً وتَبْني نسَقاً يتحرَّكُ في باطنِه مُستعمِلُ اللفظِ مُستهلِكُ المُصطلَح، وينتهي أمرُ الاحتباسِ في نَفَقِ النَّسَقِ إلى اتّساعِه عندَ قومِه ومدِّه بشروطِ الحَياةِ وأسبابِ الانتشار والتَّعمير، وانحسارِه عند مستعيره وتقلُّصِه وبدايةِ أفولِ نجمِه وانقِراضِه.
ومن نافلةِ القولِ في هذا السياقِ التّذكيرُ بأهمّيةِ معرفَة لسان أقوامٍ وثقافاتٍ بل إتقانِها كلّما ارتَقَوا في سلّم الثّقافاتِ والحَضاراتِ والفكرِ، فهو واقع لا ينبغي دفعُه وواجبٌ يتعيّنُ النّهوضُ به وتوكيلُ مَن يتفرَّغُ له ويتخصصُ فيه، فلا يُجادلُ اليومَ أحدٌ في أنّ اللّسانَ الإنجليزيَّ -بعدَ اللسانِ العربيّ المُبين- يتعيّنُ تعلّمُه وإتقانُه لأنّه صارَ المسلكَ المُبلِّغَ للثقافَة اليومَ والرّابطَ الواصلَ بين المُتحاورينَ الذينَ يحرصونَ على نشرِ ثقافتهم والتّعريف بأنفسِهم وإفادَة البشريّة بإسهامهم والإعرابِ عن ذواتهم ومواقفهم وتبليغ العالَم شكواهُم عند انتهاكِ حُقوقِهم في ديارهِم
وهكذا، فالمُنكَرُ في القضيّةِ أن تَستعيرَ لساناً غريباً عن ذاتِكَ التي بينَ جنبَيْكَ على حسابِ لسانِكَ، للتعبيرِ عن الذّاتِ وأن تتقمَّصَ قِناعاً أجنبياً بدلاً من لَبوسِكَ الأصليّ، للتواصُل مع بَني لسانكَ، وإبداءِ الرأي والحِجاجِ المُستَميت أمامَهُم، فَمن الحُمْقِ والرأي الأخرَقِ أن تقتبسَ أسلوبَ تفكيرٍ ومَنهجَ حياةٍ بعُجَرِها وبُجَرِها غيرَ أسلوب ثقافتك ولسانكَ، للإعراب لَهُم عن أسلوبِ حياتِك وجُذورِك التي انتَعَشَ منها غرسُك. ومن مُحْصَدِ الرّأْي ومُحكَمِه وسَديدِه مُخاطَبَةُ أهلِِ كلِّ لسانٍ بلسانهِم والتزامُ المتكلِّم بذلِك مَع مُحاوَريه من بني قومِه