كان حلماً كذلك.. لم تكن رؤيـا، يقولون إن الشياطين لا يحضرون في الرؤيـا، وأنا هناك في مساحة ذاكرتي حين كنت نائمـاً رأيتهم.. لذلك كان حلمـــا.
كانت الشياطين في كل مكان! في المكاتب والطرقات.. وحتى في التلفاز، بل خصوصاً في التلفاز ونشرة الأخبار!
يا تُرى من الذي جعل العالم مليء بالشياطين هكذا!؟ كنت أسير هناك.. أبحث عن ملاك، أوحتى بشر .. فوجدته! كان هناك رجل مسن جالس في قارعة الطريق. دفعني كل الاستغراب الذي في داخلي لأتقدم بخطوات مترددة نحوه، فعله شيطان أيضاً! أقتربت منه.. كان بشراً،سألته: أين ذهب الناس!؟ فقال: ها هم. وأشار بيده إلى هؤلاء الشياطين الكثر! قلت: ولكن هؤلاء شياطين! قال: وما الشيطان سوى إنسان لم يحتفظ بإنسانيته! قلت: ألم يكن في هؤلاء من أدرك عقله الحقيقة.. فنجـا!؟ قال: أسمع بني.. الحقيقة بما هي حقيقة هي في مكان واحد،وبالتالي لا يمكن أن تكون بعدة نسخ. أنا أعرف المعنى والغاية من سؤالك.. والاستغراب الظاهر عليك يفضح كل شيء، فدعني أوضح لك شيئاً لم أدركه مجاناً، كان ثمنه سبعين عاماً.. أنت حتى لا تملك نصف ذلك الثمن.
هنا قاطعته بلهفة: تفضل يا شيخ. قال (وأنفاسه أختلفت): يُخلق الإنسان نقيـاً حتى تعبث به الطبيعة. وللطبيعة أذرع عابثة كثيرة كالزمان والمكان وغيرهـــا. لا تحب الطبيعة تضارب مصالحها، لذلك هي تسعى جاهدة لبقـاء الجميع في أتجاه واحد. ولكي يحدث ذلك تحتاج هنا أستحصال طاعة هؤلاء (وأشار بيده مرة أخرى إلى الشياطين)..
وأكمل حديثه بنبرة من الحزن: و طلب الطاعة في غير مرضاة العقل يتطلب الاستعباد، فجرى ذلك بالفعل! لقد كان الجميع (إلا ما ندر) عبيداً لهـا. فقلت له: ولكن لا يمكن سيطرة ما تسميها بالطبيعة على الإنسان بهذه السهولة! فهو يملك ما يجعله يرى كل شيء ويفسر كل شيء.. وينال إدراك الأمور وعواقبها لمجرد تحليل ذلك، وذلك العقل الذي يملكه هو سبيل نجاته.
فقال لي مبتسماً: ولكم أستذكرت فيك عشريناتي يا بني! نعم.. العقل أفضل وسيلة للنجاة، ولكن! لا شيء بجانب واحد. كل الأشياء المركبة هي تملك جوانب متعددة، والتي يزداد تعقيدها بازدياد تعدد جوانبها. والطبيعة تعرف ذلك! ومن هنا بدأت بأستغلاله.
فقلت له والحيرة تملأني، والعجز عن التأول أخذ مني مأخذه الشديد: هل بأمكانك شرح الأمر بطريقة أكثر بساطة يا شيخ، ولا تنسى أنني سألت عن كثرة الشياطين و قلة البشر.فقال وقد بدى عليه أنه توقع كلماتي تلك: أعلم بني.. ولقد أخبرتك أنني أعرف المعنى والغاية من سؤالك.. ولكن طبع الشباب فيك لا يسمح لي بتكملة حديثي. فخجلت من كلامه وقلت له: أكمل يا شيخي إنما قاطعتك لأجل الفهم لا الإشكال، فتفضل أيها الشيخ العالم وأعدك بأني لن أقاطعك بعد ذلك.
فقال : لابأس.. أسمع بني، للعلم ضريبته وصدقته، فضريبة العلم تحمل تبعاته.. وصدقة العلم أعطاءه للناس. يا بني في العقل دهاليز تحتاج إلى النور، ونور العقل العلم والمعرفة. الأمر الذي تفعله الطبيعة هنا هو إبقاء ذلك النور بعيداً عن تلك الدهاليز لتبقى مظلمة، ثم تطوَّر ذلك الفعل إلى شيء أكثر خطورة! أستطاعت الطبيعة النفاذ إلى العقل والعبث به من خلال أوهامه بأنها ذلك النور من العلم والمعرفة! فنالت ثقتـه في جوانب عدة. لذلك ترى بعض الجهلة يصل بهم الأمر إلى قتل أنفسهم في سبيل تلك الحقيقة الكاذبة وذلك النـــور المزيف.
ثم قال مشيرًا إلى احد الشياطين بدى عليه أنه ببعض الأهمية في مجتمعه: هل ترى هذا الشيطان؟ فقلت: نعم أراه. قال: كان هذا الشيطان إنساناً قبل أعوام،أنـا كانت لي به معرفة عن قرب حتى نالت منه الطبيعة ما نالت.. فأبتعدت عنه.
لقد كان هذا الشيطان على معرفة بالحقيقة. لم يكن في أتجاه العوم الذي تريده الطبيعة!. والمتفرد عن القطيع تحوم حوله الأنظار ما بين الغرابة والجهل وفضول المعرفة، لذا كان لزاماً على الطبيعة السعي لتغيير أتجاه عومه. فبدأت بأصطياده بنظرية البدائل!
فقلت يا شيخ أنا وعدتك بعدم المقاطعة ولكن! ماهي نظرية البدائل؟ فقال: لقد سامحتك على المقاطعة، والآن أسمع مني بعض الغرابة. وأضاف : تعمد الطبيعة إلى أركان اليقين في حقيقة ذلك المدرك والعارف لتستبدلها بأركان أُخرى مزيفة، ولأن الحقيقة مرتبطة بأركانها من اليقين المُدرك.. لذا تُستبدل الحقيقة أيضاً ! دون أن يشعر أو يلتفت ذلك الإنسان! ويجري ذلك تحت ضغوط معينة تجعل منه يبدأ بقناعات جديدة، بل وأكثر من ذلك! فهو يندم أحياناً على الوقت الذي كان فيه بحقيقته السابقة! وإدراكه المُستبدل.
فقلت: وكيف يكون للحقيقة أكثر من يقين! فقال مبتسما : اليقين باب من أبواب الحقيقة، فهي كالبيت الواحد بعدة أبواب. فاليقين اعتقاد جازم مطابق للواقع لكنه في نفس الوقت يأتي بعدة مستويات وبمسميات يقينية مختلفـة. ولكنك تركت لب الموضوع و تسألت عن قشره! كان المفروض أن تسأل كيف يفرط ذلك المدرك بحقيقة وصل اليها بيقين!؟
فقلت نادماً: صحيح .. هذا سؤال أكثر أهمية وأكثر أرتباط بالحديث، والآن هل ستجيب عليه يا شيخي؟فقال مبتسماً : ولكنك لم تسأل؟فأبتسمت أيضاً وكررت عليه السؤال.. فأجابني :الطبيعة أدركت ثغرة معينة في هذه التركيبة المعقدة! فأستغلت ذلك جيداً.. وجاء ذلك بنتائج مبهرة! للأسف.
فقلت بلهفة: وما هي هذه الثغرة؟ فقام ثم توجه نحوي باقتراب أكثر.. وقال : بني، لا تتعلم أخذ كل شيء جاهزًا، فلن يكون هناك دائماً من يعطيه لك. حاول أن تستنتج، لقد أخبرتك سابقاً عن اليقين.. وأنه يأتي بعدة مستويات، من هنا تستطيع أن تصل إلى النتيجة المنجية للسؤال من البقاء عائماً في المجهول.
سأختصر عليك لأني في نية الذهاب. يأتي اليقين علماً وعيناً وحقا. الطبيعة تعتمد على تلك المستويات من اليقين، فتعمد إلى صاحب علم اليقين لتوهمه إن الحقيقة التي أتت بها هي عين من اليقين لا علم! فيميل عقله لذلك الوهم طالباً الأفضل! وكذلك يحدث مع المستوى التالي. ليبقى مستوى حق اليقين بلا بديل زائف، هولاء هم الفائزون بالحقيقـة يا بني.
ولكن.. هناك شيء يجب عليك معرفته.. ليس كل المستويات التي دون ذلك اليقين (حق اليقين) هي عرضة للاستبدال! لا.. مطلقاً. والآن أذهب إلى عالمك المادي ودعني هنا، أنا أيضاً أريد الذهاب.
ثم صحوت! كان حلماً درامياً يحتاج إلى التأويل.. ولكن هل تأؤول الأحلام!؟
الشيء الذي أردت سؤاله لذلك الشيخ وأدركني الاستيقاظ هو.. من أو ما هي تلك الطبيعة!؟ ومن أعطاها أو سمح لها بكل تلك السلطة!؟
الحلقة الأولى هنا لمن أحب الاطلاع.
كتبـــــه الفقيـــــر: جواد الزهيراوي.