إذا كنت تميل إلى ملاحظة الوجوه في الأشياء الجامدة من حولك فأنت لست وحدك (آرستيديس هيريرا كونتي) .
عينان وفم ومن ثم لا يستغرق عقلك الكثير من الوقت لإنشاء وجه بشري. إذا كنت تميل إلى ملاحظة الوجوه في الأشياء الجامدة من حولك فأنت لست وحدك من يرى ذلك.
ويطلق على هذه الظاهرة وجه باريدوليا (pareidolia face)، أي رؤية الوجوه في الأشياء اليومية. فهي حالة إنسانية للغاية تتعلق بكيفية توصيل أدمغتنا.
وأظهر بحث جديد نُشر في دورية سيكولوجوكال ساينس (Psychological Science) أننا نعالج هذه الوجوه "المزيفة" باستخدام الآليات البصرية نفسها للدماغ التي نقوم بها مع الوجوه الحقيقية.
وصدر بيان عن الدراسة على موقع جامعة نيو ساوث ويلز سيدني (University of New South Wales Sydney) يوم 14 أغسطس/آب الجاري.
وجوه مزيفة لها مشاعر
يقول الباحث الرئيسي في الدراسة الدكتور كولين بالمر، من كلية علم النفس بجامعة نيو ساوث ويلز بسيدني، إن رؤية الوجوه في الأشياء اليومية أمر شائع جدا، وهو ما يبرزه العديد من "الميمات" وصفحات الويب المخصصة لها على الإنترنت.
يقول بالمر إن "الميزة المذهلة لهذه الأشياء هي أنها لا تشبه الوجوه فحسب، بل يمكنها أيضا أن تنقل إحساسا بالشخصية أو المعنى الاجتماعي. على سبيل المثال، قد تبدو نوافذ المنزل وكأنها عينان تراقبانك، وقد يكون للفليفلة شعور بالسعادة حينما تنظر إليها".
ولكن لماذا تحدث ظاهرة باريدوليا؟ يقول الدكتور بالمر إنه للإجابة على هذا السؤال نحتاج إلى النظر فيما ينطوي عليه إدراك الوجه. بينما تبدو الوجوه البشرية مختلفة بعض الشيء، تشترك في سمات مشتركة مثل الترتيب المكاني للعينين والفم.
ويضيف "هذا النمط الأساسي من الميزات التي تحدد وجه الإنسان هو شيء يتناغم معه دماغنا بشكل خاص، ومن المحتمل أن يكون هو ما يلفت انتباهنا إلى كائنات باريدوليا".
ويتابع "لكن إدراك الوجه لا يتعلق فقط بملاحظة وجود الوجه، بل بالتعرف أيضا على من يكون صاحب هذا الوجه، وقراءة المعلومات من وجهه، مثل ما إذا كان يهتم بنا، وما إذا كان سعيدا أو مستاءً. وهذه العملية تعتمد على أجزاء من أدمغتنا متخصصة في استخراج هذا النوع من المعلومات مما نراه".
لاحظ الباحثون أن وجه باريدوليا هو وهم بصري يثير المشاعر فينا (مجموعة وينسيزالاس هولار– جامعة تورونتو).
كيف تحدث؟
اختبرت الدراسة الجديدة ما إذا كانت الآلية نفسها في الدماغ التي تستخرج المعلومات الاجتماعية عندما ينظر شخص إلى شخص آخر يتم تنشيطها أيضا عندما يواجه شخص ما وجه باريدوليا. استخدم الباحثون في ذلك عملية تُعرف باسم "التكيف الحسي"، التي يتأثر فيها إدراكك بما شاهدته مؤخرا.
في الدراسة، تعرض الأشخاص مرارا وتكرارا لوجوه كانت تنظر إلى اليسار. وعندما تم عرض وجه ينظر إليهم مباشرة، قالوا إن العيون كانت تنظر إلى اليمين إلى حد ما.
ووجد فريق البحث أن التعرض المتكرر "لوجوه باريدوليا" التي يبدو أن لها اتجاها محددا للنظرة يسبب تحيزا منهجيا في إدراكك لمكان ظهور الوجوه البشرية.
يقول بالمر "هناك دليل على أن هذا يعكس نوعا من عملية التعود في الدماغ، حيث تغير الخلايا المشاركة في اكتشاف اتجاه النظرة حساسيتها عندما نتعرض بشكل متكرر لوجوه ذات اتجاه معين للنظرة".
ويعتقد الباحثون أن هذا يحدث لأن الآليات الحسية المتداخلة يتم تنشيطها عندما ننظر إلى الوجوه البشرية وعندما نشعر بوجه باريدوليا. ووجد الباحثون أيضا أن هذه التأثيرات تقل بشكل كبير عند إزالة السمات المشابهة للوجه من الكائنات.
عينان وفم ومن ثم لا يستغرق عقلك الكثير من الوقت لإنشاء وجه بشري (روني ماكدونالد).
إن افتراضنا الغريزي بأن الأشياء اليومية تنقل عاطفة لنا يكشف شيئا عن آليتنا الداخلية وأننا نعرض مشاعرنا على هذه الأشياء العادية.
وعلى الرغم من أننا نفهم أن كائنات باريدوليا ليس لديها مشاعر، فإنه لا يسعنا إلا أن نراها تتمتع بسمات شخصية مثل "اتجاه النظرة" بسبب الآليات في نظامنا البصري التي تصبح نشطة عندما تكتشف شيئا ذا وجه.
لاحظ الباحثون أيضا أن وجه باريدوليا هو وهم بصري ينقل إحساسا بالشخصية أو المعنى الاجتماعي أو يثير المشاعر فينا.
وإذا كنت تشعر بأن كائن باريدوليا ينظر إليك بازدراء أو يشكك في دوافعك أو ينقل بعض المشاعر، فقد يكون ذلك بسبب أن ميزات الكائن تعمل على تحفيز آلية في عقلك تصبح نشطة لقراءة هذا النوع من المعلومات من الوجوه البشرية.
اضطرابات التعرف على الوجوه
بالإضافة إلى تأكيد كيفية معالجة أدمغتنا للوجوه، يمكن أن تثير الدراسة أسئلة جديدة حول فهمنا للاضطرابات المعرفية المتعلقة بالتعرف على الوجه.
يقول بالمر "إن فهم إدراك الوجوه مهم عندما تفكر في مشكلات مثل عمى الوجوه، وهو عدم القدرة على التعرف على الوجوه، وطيف التوحد، والذي يمكن أن يشمل صعوبات في قراءة المعلومات من وجوه الآخرين، مثل حالتهم العاطفية".
رغم أننا نفهم أن كائنات باريدوليا ليس لديها مشاعر، لا يسعنا إلا أن نراها تتمتع بسمات شخصية معينة (فينسنت سيلمار)
"وبالتالي فإن الهدف طويل المدى لهذا النوع من البحوث هو فهم كيف يمكن أن تحدث الصعوبات في إدراك الوجوه والأداء الاجتماعي اليومي"، يضيف بالمر.
يخطط الباحثون بعد ذلك للتحقيق في مزيد من التفصيل في آليات الدماغ المحددة المشاركة في قراءة المعلومات الاجتماعية من وجه شخص آخر، وما إذا كانت هذه الآليات يمكن أن تعمل بشكل مختلف في أشخاص مختلفين.