لم تكن علاقتي بالأفلام الرومانسية جيدة على حد كبير، كنت أرى فيها المبالغة وتصورات حالمة غير منطقية حتى قابلت فيلم Before Sunrise وهو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء تابعه له فيما يعرف بـ The Before Trilogy ومن هنا بدأت رحلتي في عالم جيسي وسيلين.
قد يعجبك فيلم ما فتشاهده أكثر من مرة على فترات متقطعة أو متواصلة حتى، ولكنها كانت المرة الأولى بالنسبة لي والتي أشاهد فيها فيلمًا مرتين متتاليتين في نفس الأسبوع دون لحظة ملل، فما الذي يجعله إذًا فيلمًا رائعًا لهذا الحد؟
فكرة مجنونة تمامًا في ظاهرها، واقعية جدًا في باطنها، على متن قطار متوجه إلى فيينا يتقابل الأمريكي إيثان هوك (جيسي) مع جولي دلبي (سيلين) طالبة فرنسية عائدة إلى وطنها، وعلى أثر مشاجرة بين زوجين كانت تلك نقطة التلاقي بينهما، اتخذ الأمريكي جيسي خطوته الأولى وتحدث إلى سيلين ودعاها ليتناولا الطعام ومن هنا بدأت الرحلة.
حتى تلك النقطة لا يبدو أن شيئًا مختلفًا سيحدث هكذا ظننت حتى بدأ الحديث والذي كان واقع لذته ومذاقه أقوى من لذة الطعام، بدت فكرة جيسي مجنونة تمامًا بدعوة سيلين أن ترافقه بعد ذلك في التجول بلا هدف في أحياء فينيا وألا تعود مباشرة إلى فرنسا، وافقت ولم يكن أمرًا مستغربًا فكلاهما قد أعجب بالآخر أثناء حديثهما الأول.
إلى تلك اللحظة لم يكن أحدهما يعرف اسم الآخر، بادرت سيلين أجاب جيسي ومن هنا انطلقت الرحلة الفعلية، هما نفسهما أقروا أنه جنون ولكنه في نفس الوقت أمر جيد، ثم بدأوا باستكشاف المكان سويًا، ولعلها نقطة مهمة جدًا ومحورية، سيلين لم تعرض عليه مثلًا أن يكمل حتى فرنسا ويتقابلا هناك، بل وافقا أن يستكشفا مكانًا جديدًا، فكانت المغامرة في معرفة المكان ومعرفة بعضهم البعض، ومن ناحية سيلين تعد تلك المغامرة أمرًا خطيرًا أن تقبل فكرة كهذه في تسعينيات القرن الماضي، هذه النقطة إضافة للقصة بشكل غير مألوف.
ما جعل الأمر منطقيًا هو الحوار الذي كتبه ريتشارد لينكلاتر فلم يتحدثا عن الأحلام وتغيير العالم بالحب بل على العكس تمامًا تحدثا عن الموت، الأحبة السابقين، الآباء، الدين وهذا بالطبع ما يحدث في اللقاءات الأولى.
بدأ كل واحد منهم بسؤال الآخر، بدأت تكشف المدينة نفسها تمامًا مثلهم، يجيبون مرة باقتضاب وأخرى بإطالة لكن بصراحة تامة، جمعتهم الموسيقى كدرب أول اقترحت سيلين الأغنية وتبادلا النظرات الخاطفة أثناء الاستماع لها كانت لحظة فريدة جميلة تمامًا كأغنية Kath bloom.
Well I’m in no hurry
Don’t have to run away this time
I know you’re timid
But it’s gonna be all right this time
لا يمكن أن يجد الإنسان حبيبًا يشبهه بنسبة 100% لأن الإنسان ذاته قد لا يشبه نفسه في مرآته، فرغم اختلافهم في بعض وجهات النظر تقبلوا آراء بعضهم البعض، لم يخلقا مشكلات، فهما كانا يبحثان عن ليلة سعيدة فقط لا غير.
حينما تشاهد تفاصيل كل شخصية ستجد نفسك تتشابك مع أحدهما في فكرة ما أو تصرف، ورغم أنهما شخصيتان فقط ولكن يتشابك معهما ألوف بل ملايين ولا أظن ذلك مبالغة فقد تحدثا في مواضيع كثيرة تناسب جميع الأعمار ومتاحة لكل عصر وهذا يرجعنا مرة أخرى إلى تفرد السيناريو.
يمكنك دمج الواقعية ورسم الشخصيات بالسيناريو فكلهم واحد في المجموع وإن اختلفوا تفصيلًا، يذهبان سويًا إلى المدافن ثم يتجهان إلى دائرة الألعاب. بدأ كل منهما يشعر بالألفة، تبادلا القبلات وأكملا حديثهما مرة أخرى.
واحد من أهم مميزات رسم الشخصية هو أنك تلحظ بعض الصفات في شخصية كل منهم دون تصريح بذلك، سيلين امرأة قوية مستقلة، جيسي مشوش ومتوتر بعض الشيء، الأمريكي لا يعترف بقراءة الكف فيرى أنه أمر ربحي تمامًا عكس سيلين التي آمنت بتلك السيدة فقد أدلت لها بمعلومات صحيحة، جيسي غير مهتم بالأدب يرى أيضًا أنه أمر ربحي حينما رأى رجلًا يشحذ وكتب لهم أحد القصائد، تذوقتها سيلين بقدر كبير من الحب والامتنان، تباين واضح تمامًا بين خلفية سيلين الفرنسية الفنية، وبين العالم المادي المجرد عند جيسي الأمريكي.
كدرب ثانٍ جمعهما الشعر بعد أن جمعتهم الموسيقى وأرى أنهما أمران أساسيان في العلاقات العاطفية جميعًا، كانت كلمات القصيدة تحمل نفس معنى الأغنية، أنهم غرباء ولا يعرفون أين هم، تائهين وحالمين باحثين عن السعادة.
I want you to know what I think
Don’t want you to guess anymore
You have no idea where I came from
We have no idea where we’re going
بعد انقضاء نصف الفيلم تشعر أنك معهم لا خلف الشاشة تراقبهم، بل وتتمنى أن تصبح مكان أحدهما، أصبحت أيضًا معبأ بالأسئلة التي طرحوها، معجب كذلك بعبارات كل منهما، وبآمال وخيبات كل منهما.
قد تتمنى نفس أمنية جيسي
Sometimes I dream about being a good father and a good husband. And sometimes it feels really close
وقد تقر نفس خيبة سيلين
”The only person I could really hurt is myself“
لا تنتهي الاقتباسات هنا بل على مدار الفيلم يمكنك تسجيل واحدة كل خمس دقائق.
لم يخشَ كل منهما أن يبدي آراءه مهما كانت المواضيع مربكة، تحدثا عن الرب وعن طباع الطوائف المختلقة، عن الجنس، عن المشاعر الخاصة جدًا في حياتهم، احترم كل منهما وجهة نظر الآخر رغم اختلافهما كليًا في بعض الأحاديث.
كان من المدهش لي أن يتحدثان عن الحركة النسوية ”الفيمينزم“ في التسعينات فلم تكن الأصوات بنفس علو اليوم، اختلافًا كليًا أيضًا في الحديث حتى أنهته سيلين قائلة :
You know, man woman there’s no end of this
تحدثا أيضًا عن التكنولوجيا قبل الصعود المروع الذي يحدث الآن وأثاروا نقطة محورية :
people talking about how great technology is, and how it saves all this time. But, what good is saved time, if nobody uses it
واحدة من مميزات الفيلم هو الإخراج فلم يجعل البطلان فقط هما محور الأحداث بس المكان أيضًا، كان يهتم بتفاصيل الأحياء والمباني والحانات والكنائس، ضف على ذلك اهتمامه بوجوه الناس العاديين، وهذا ينقلنا إلى واحد من أهم مشاهد الفيلم حينما اعترف كل منهما للآخر بمدى إعجابه، بدأ الكادر أيضًا بغرباء المكان فتلحظ اختلاف ثقافتهم ولغتهم ومن ثم جاء بأبطال الفيلم.
كان مشهدًا محوريًا أقرا فيه مرة أخرى جنون الفكرة وهذا ما جعل الأمر منطقيًا، من هنا بدأت النهاية، هل يمكن أن يتقابلا مرة أخرى؟ أم إنها ليلة مجنونة سعيدة وينتهي كل شيء ؟
كانت ليلة واحدة مليئة بالأحداث والأحاديث، ورغم أن جيسي أقر أن حب المسافات الطويلة فاشل بحكم تجربتة في مدريد إلا أنه كان الأكثر حرصًا على إعادة اللقاء، التقط كل منهما صورة للآخر في خياله، تبادلا القبلات وأحضان الوداع، كنت أتمنى وقتها لو عبر واحد منهما حدود الآخر ولكن منطقية القصة أطاحت بمخيلتي الحالمة، اتفقا على معاد جديد، ورحل كل منهم إلى موطنه إلى أن يتقابلا مجددًا.
خالد سليمان - أراجيك