* أوْرَدَ أحدُهُم في مَجلسٍ من مَجالس العلم على الشَّبَكَة، نصاً للكاتب النّاقدِ المصريّ زكيّ مبارَك، مُقتبَساً من مذكّراته، جاء فيه: « مَرّت السّاعاتُ ( في القطار) بين القاهرة واﻹسكندرية وأنا مقسم الفكر، أنظر تارة إلى الصحف، وأخرى إلى ما نَمرّ به من الحقول، حتى أسلمنا القطارُ إلى الباخرة في غير عناء. ونقلت أمتعتي إلى مكاني في السفينة، ثمّ جاءت ساعة الغداء … وُضعت المائدة، وأقبلتُ أتحرّى مكاني بين المسافرين والمسافرات، فلمحت مكانا خاليًا بينَ سرب من الظباء، فبادرت إلى احتﻼله، وإذا صديق من زمﻼئي الفرنسيين يقول: ماذا تريد يا مسيو مُبارك؟ هذا مكان مشغول! ماذا أريد؟ ماذا أريد؟ الخبيث يعلم ما أريد، ولكنها اﻷثرة والغيرة واللؤم، كل أولئك حمله على إقصائي عن المكان المنشود! ورجعتُ أتلفت علّني أجد مكانًا طيبًا بين جِيرةٍ يخفق لهم القلب، وتهفو إليهم الجوانحُ، فلم أجد بعد البحث الطويل. وانتهى بي المطاف عند طرف من المائدة، فيه اثنتان من العجائز، وفيه رجل مصريّ. أمّا العَجائزُ فالقارئُ يُدركُ أنّ اﻷنسَ بهنّ مُحالٌ. والرّجلُ المصريّ، ما حاجَتُنا إليه وقَد تَركْنا في مصرَ خَمسةَ عَشرَ مليونًا غير آسفين ! »
وبَدا لي أن أعلّقَ على النّصّ، بربطِ الأدبِ وجَماله بشرط الأخلاقِ، قُلتُ فيه: «يبدو أنّ زكي مبارَك – في هذه اللقطَة من لقطات مذكراته – أساء مرتيْن: أولاهما أنه أساء إلى نفسه؛ إذ لم يَرُقه من مَقاعد الجلوس إلا مُجاورَة “الظّباء” ، فتلك الالتفاتَةُ منه مُراهَقَةٌ مؤذيةٌ جَرّت عليه السؤالَ غيرَ البريء من الفرنسيّ “اللّئيم”، وأساء إلى بلَده وبني وطنه إذ استغْنى عنهم واستراح منهم بمُغادرة بلده الذي يعجُّ بهم»
لكنّ بعضَ الباحثينَ لم يَرُقْه التّعليقُ، فهبَّ كالمذعورِ وكَتَبَ قائلاً :
« لو قلنا بقول الأستاذ عبد الرحمن بودرع والتزمنا به حرفيا سنلغي تراثا عربيا زاخرا بالجمال، مثل كثير من الشعر القديم كمظهر من مظاهر الانفلات الأخلاقي… » هكذا بالحَرف من غير زيادة أو حذفٍ أو تبديل. ثمّ بَدا لي أن أردّ على تَعليقِه فقُلْتُ :
« القولُ بأنّ الكاتبَ أساءَ إلى بني بلَده، وآثَرَ الفتيات الأجنبيات، لا يُلغي إبداعاً ولا جمالاً، وكفى النّاسَ حَساسيةً كلّما أثيرَ موضوعُ الأخلاق، فكثير من الناس يقرؤون ما وراء الكلام ولا يقفون عند دلالات الكلام، ثم اعلَمْ أن هجاءَ الشعراءِ المشركين للإسلام لم يُسقِطْ كثيراً من أشعارهم من ديوان العرب ولا حتى من السيرة النبوية، وفيها قيم بلاغية عالية، بل في غزليات عُمر بن أبي ربيعة من الفُحش ما يُنافي المبادئ ولكن أشعارَ عُمَر لم تَسقُط من ديوانه، بَلْ بَلَغَ الأمرُ ببعضِ النّقّادِ القُدَماءِ إلى أن قرنَ بينَ الشّعرِ والشّرّ؛ فهذا الأصمعيّ يَقولُ:
«الشعرُ نَكَدٌ بابُه الشرُّ، فإذا دخلَ في الخير ضَعُفَ، هذا حَسّانُ بنُ ثابتٍ فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلامُ سقطَ شعرُه، وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، فقطع متنه في الإسلام»
[انظرْ النّصّ في الشّعر والشعراء لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المَعارف، القاهرة، ط.2، ج:1، ص:305].
ولا شكّ في أنّ هذا القِرانَ الذي عَقَدَه الأصمعيّ بين فُحولةِ الشّعرِ والشّرّ، وبين لِينِ الشّعرِ والخَيْر، ليسَت حقيقةً مطلقةً، ولكنّها ذاتُ صلةٍ بطولِ تجربةِ الشعرِ في العصرِ الجاهليّ والأغراضِ الجاهليّةِ، وما يُقابلُ ذلِك من حَداثةِ عَهْد الشعرِ بالإسلامِ ورقّةِ تجربَتِه وقِصَرِ نَفَسِه فيه، وإلاّ فإنّ الشّعرَ ذا الأغراضِ السّاميةِ والأخلاقِ العاليةِ تَنامى عبر الزّمَن في العُصورِ اللاّحقَةِ، في العصرِ الأمويّ والعصرِ العبّاسيّ وما تَلا ذلِك من عُصور شهدَ فيها الشّعرُ العربيّ المُلتزِمُ ازدهاراً وقد حَكى القُرآنُ الكريمُ ببلاغته العاليةِ وبيانه الرَّفيع، استهزاءَ المُشركينَ بالدّين وأراجيفَهُم وتكذيبَهُم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّمَ، ولم يكتُمْها.
فالأخلاق لا تنفي البلاغة والبلاغة لا تُقيمُ وحدَها الأخلاق، ولكن هذه الحقائقَ لا تَمْنعني أن أقولَ إن الكاتبَ زكي مُبارَك قد أساء إلى غيره وارتكَبَ كبيرةً أخلاقيّةً؛ لأن الإنسانَ إذا أوذيَ في نفسِه أو مَشاعرِه أو مَبادئه فقد ارتُكِبَ في حقّه إساءةٌ أخلاقيةٌ، لا يشفعُ لها أن تَكونَ نُظِمَت شعراً أو كتبت نثراً . وهذه مسألةٌ كثُر فيها الكلامُ، ولا أدري كيفَ يفهمُ المُعترضُ، كلامَنا الآخَر حول الإساءة الأخلاقية بأنه إعدامٌ للإبداع، ويُسقطُه من حساب النقد ومن ثقافة الناقد الأدبي ، ومن الدفاع عن مشاعر فئة بشرية ضدّ ظلم فئة أخرى»
ثمّ أضفتُ إلى ذلِك الكلامِ كلاماً، ردّاً على الافتراءِ: «لم أقُلْ بإلغاءِ شَطرٍ من التُّراث الإبداعيّ، فكأنّك أيُّها المُعقِّبُ المُفْتَري تكلمتَ باسمي وأقحَمْتَني في مَعْرَكَة الفَصْلِ أو الوَصْلِ بين الإبداع والأخلاقِ، وجعلْتَني أنتهي إلى النتيجة التي انتهيْتَ إليْها، في ادعاء القول بوُجوب إلغاءِ التّراثِ الإباحيّ أو المُنافي للمبادئ، وهذا غير صحيح، بل هو منكَ سوءُ طبعٍ وتسرّعٌ في الحُكمِ وعَمىً عن الحَقيقةِ. فمَن قالَ إني أدعو أو قد أدعو إلى إسقاط ذلِك الجزء، والحياةُ قائمة أصلاً على ثنائية الخير والشر والعدل والظلم والصالح والطالح والحق والباطل… ولولا تلك المُدافَعَة لَما عُرفَ حق من باطل ولا عدلٌ من جَوْرٍ، وقد ابْتَلانا الله عزّ وجلّ بالشّرّ والخَيْر فتنةً امتحاناً للصبرِ والتّحمّلِ»