تركي امحمَّد
يقول أبو إسحـاق الصابي:
"أفخر الشِّعر ما غَمُض، فلم يعطك غرضه إلاَّ بعد مماطلة منه"
تحاول هذه الدراسة الكشف عن ظاهرة أسلوبية وجدت في شعرنا العربي، وهي ظاهرة الغموض الّذي تعلّق أستار كلّ قصيدة قديمة و حديثة. ولما كان الشّعر قائما على المجاز كان لا بدّ أن يكون لهذا الأسلوب حضور شاسع في النّص، فالمجاز بطبيعته يخالف الحقيقة ويبنى على الخيال القائم على التّوسيع والتّكثيف والمراوغة وكسر السّائد اللّغوي المتعارف عليه بين النّاس. والشّاعر البارع هو من يأتي بهذا الأسلوب في نصه؛ بحيث يعكس براعته و قدرته على الكتابة.
هذا، في نظر النّقاد المؤيدين للغموض كأبي إسحاق الصّابي ت (384هـ)، أمّا من جهة الرافضين من النّقاد فما هو إلاّ أحاجي وإبهام لاتمت للإبداع الشّعري بصلة.فقد يكون تغطية لضعف صادر عن ذات شاعرة مبتدئة في نظم الشّعر، وبالتّالي يلوي عُنُق التواصل بينه وبين المتلقّي الّذي لا يفهم الرّسالة فيثور على الباث وينعته بالتقصير والرداءة، ولنا في شعر أبي تمام (ت:231 هـ) أمثلة أكثر مما تعد وأوسع من أن تحدّ، وكذا أشعار معاصريه.
عالجت في مقالي هذا الموسوم بـ"سلطة الغموض في التَّأسيس لشعريِّة الخِطاب " أمرين في غاية الأهمية: أولهما: يتّصل بجمالية الغموض في النّص، وثانيهما: فاعلية المتلقي في إنتاج وتحوير النّصوص الغامضة؛ إذ تراءى لي وللشّعراء قبلي أنّ الغموض ليس في النّص وإنّما في القارئ الذي لا يملك ثقافة كافية تهيئه لاستقبال هذا النّص وتأويله.
مقــدمة:
راجت السّاحة النَّقدية في مقاربتها للنَّص الشّعري العربي بقضايا كثيرة أثرت الخطاب النّقدي في جوانبه المتعدّدة، ومن أمهات هذه القضايا التي لها صلة وثيقة بالنّص الإبداعي قضية الغموض؛ فلئن كان الوضوح والإفصاح وقرب المأخذ من أهم مقومات جودة الشّعر، في فترة قُيِّد الشّاعر بالنظم وفقا لمعايير عمود الشّعر العربي، فإنَّ الجودة فيما بعده أضحت كامنة في النَّص الشّعري الغامضة معانيه، المتوارية دلالته، والبعيدة مجازاته.
هذا ما لُوحظ لأوّل مرة في السؤال النّقدي الذي طرحه قراء أبي تمام في قولهم :" لماذا لا تقول ما لايُفهم؟ ليجيب ولـما لا تَفهمون ما أقول؟"(1) وبهذا يكون أبو تمام قد سبق عددا وفير من النّقاد الغربيين، والنقاد العرب المعاصرين على ضرورة مشاركة القارئ في إنتاج المعنى فيحدّد بمستواه الذوقي الجمالي عندئذ ما يرميه الشّاعر.
01- جمـالية الغموض:
عُدّ الغموضُ -بهذا الوصف -المحرك الأساسي الَّذي يُولّد الطّاقة الشّعرية والكثافة الفنيَّة للنّص الإبداعي(2)، من خلال ما يطرحه للمعاني من حياة تتجدّد بفعل" التَّأويل المستمر والتأطير المتحوّل أبدا، وينجم عن هذه النصوص لا نهائية النَّصّ ولا محدودية المعنى، وتعدّد الحقائق والعوالم بتعدّد القراءات" (3)، ولذلك كان السّمة الطبيعية الناجمة عن فنيات اللّغة الشّعرية من انزياح ومفارقات...، وعن جوهر الشِّعر الَّذي هو" انبـثاق متداخل من تضافر قـوات عدَّة من الشـّعور والرُوح والعقل، متسترة وراء اللّحظة الشّعرية" .(4)فالشّاعر يستعين بمجموعة من الحيل لإخفاء الحقيقة عن القارئ؛ لأنّه يعبّر من أغواره عن قضاياه وشواغله، فيعرضها في حلل رمزيّة، إيحائيّة، محفوفة بقدر من الغموض. وهذه طبيعة الشّعر والشّاعر وبذلك عبّر البحتري قديما:
والشِّعْرُ لَمْحٌ تَكْفِيْ إِشَاْرَتُهُ وَلَيْسَ بِالهَذْرِ طُوِّلَت خُطَبُهْ (5)
اعتبر الدّارسون العرب الغموض فنا من فنون التّعبير، ونمطا من الأنماط الشّعرية الّتي يلجأ إليها الشّاعر في نظمه، لشدّ بال وانتباه القارئ الّذي بدوره يحلّل ويبحث ويكتشف ويفسّر، حتّى إذا وصل إلى المعنى شعر بلذة لا تدانيها لـذة، ومن هنا كان النصّ الغامض نصّ اللَّذة (*)والمتعـة مادام أنّـه يُمتّع ويُشوّقه في عملية البحث والكشف، فقد كان "لتحديد الشيء وتسميته والتصريح به في الشِّعر، يعني الاستغناء عن ثلاثة أرباع المتعة الَّتي تتيحها القصيدة والَّتي تنشأ عن الارتواء بالتخمين التدريجي، أمَّا الإيحاء بالشيء وإثارته فهذا ما يسحر الخيال" (6)، ويجعل القول مفتوحاً على دلالات جديدة.
يُمنح الشّاعر الصلاحيّة التّامة في صقل لغته و ترويضها -إن صح القول -فهي وعاء الشّعر (7)، والمادة الأساسية المشكلة لجماليته، وعليها يقوم أيّ إبـداع أدبي. فالشّاعر" ملء الحرية في إيجاد نحوه الخاص وإيقاعه الخاص" (8)، فلا يحتاج إلى قانون يحكمه ولا إلى معيار يحدّ من كلامه، متجاوزا بذلك كلّ الأعراف والأطر، باعتباره "يـرى مالا يرى غيره" (9)، وما الغموض إلاّ بـذرة هذا التّجاوز للّغـة الكلاسيكية، القائمة على "مغايرة العرف النثري المعتاد، وكسر قواعد الأداء المألوفة لابتداع وسائلها الخاصّة في التّعبير عمّا لا يستطيع النثر تحقيقه من قيم جماليّة" (10)، وإن كانت لغتهما واحدة.
وبهذا يكون الغموض علامة فارقة بين لغة الشّعر ولغة النثر المكونة من الوضوح والمباشرة. فقد أباح نفر من النّقاد العرب في الشّعر "بعض الغموض والاكتفاء بالإيماء والرضا بالرّمـز، ولا يباح للناثر إلاّ أن يكون واضح الدلالة، سهل العبارة، بَيِّنَ الإشارة" (11)، يفهم كلامه العامّ والخاصّ، بدلا من الشّعر الّذي لا يفهمه إلاّ من كانت له كفاءة عالية في القراءة والتّأويل تمكّنه من فهمه.
يُشكّل الغموض نقطة مشتركة بين جميع العلوم (12)والفنون الأدبيّة. لكنّه توطّن الشّعر؛ باعتباره جامعا مانعا لكلِّ هذه العلوم، وهذا ما جعل صاحبه يسمو بلغته لخلق قصيدة تُمتع ناظرها، فينجذب إليها قراءة وتأويلا؛ بحيث إنّ لكلّّ قراءة معنى جديدا غير المعنى الأوّل، فيُوقِن أنّه أمام نص ذي نفس عميق (**)، نص كُتب ليبقى، ومن أجل ذلك كـان من حيل الشّاعر إقحام القـارئ في الجوّ السّطحي للنّص، فيعطيه مفتاح حلّ الشّفرة في اللّحظة الّتي يراوغه فيها بالتّشفير والرّمز (13)، اللّذين يكتشفهما القارئ ليُقِرّ أنّ الشّاعر لولم يتكلّم بهذا الأسلوب المراوغ، لكان كلامه مسهفا مبتذلا .
أضحى لزاما على الشّاعر في نظمه، وما يصحبه من حالات في نقل تجربته وعواطفه، أن لا ينطلق من معجمه الجاهز في بعث خطابه الشِّعري؛ وإنّما يبحث عن معجم فنّي آخر يزخر بالمعاني المشِّعة بالتَّأويل والتَّفسير (14)، ليعيد بذلك النّظرة الكليّة للنّص الإبداعي، من بعد ما كانت صياغة للمعنى إلى محاولة لاكتشاف المعنى (15) فنجد" أنّ هذه الكلمات تستحقّ أن نتأمّل مـعانيها وأن نضمّ هذه المعاني، معنى بجانب معنى، لنعرف المعنى الّذي وراء المعنى" (16)، المفتوح على وابل من الدّلالات والتَأويلات المستمدّة من المغايرة والقدرة على إثارة الدّهشة وإحداث المتعة. وهي الأطر المؤسّسة لجمالية النّص الإبداعي الجديد (17).
02- فاعلية المتلقّي في إنتاج وتحوير النّصوص الغامضة:
يبقى الشّعر من الفنون الأدبيّة القريبة من القراء بلا منازع، ولهذا كان للمتلقّي دور كبير في نجاح العمليّة الإبداعيّة؛ فهو واحد من مشكّلات النّص الشّعري زيادة علـى المبدِع، كما أنّه المـقوّم الوحيد الّذي يعيد بناء النّص (18) فيكون المبدِع الثّاني لهذا النّص وفقا لذوقه وطريقته الخاصة؛ فهو-المتلقِّي- كما يشير النّقاد "بؤرة الاستقصاء؛ أو المركز الّذي تتمحور حوله كلّ عناصر النّص" (19)، الَّذي لم يعد يُنظم على المثال الأوَّل (الشّعر القديم )، وإنمّا أعيد تشكيله لصناعة نصّ إيحائيّ، غامض، ولّدته غزارة الطّاقة الشّعرية والفنيّة للشّاعر الفحل الّذي أضحى يلعب ويلاعب اللّغة،كما يلعب السّاحر بعصاه .
يتلقّى القارئ النّص الشّعري الغامض، ويشرع في تحوير صوره وتفسيرها؛ إذ تتداخل الدوال مع بعضها البعض للتعبير عن معنى آخر(20)،لم يعهده التركيب في طبعه العادي، نتيجة تبادل الكلمات والمعاني لأدوارها في السّياق الّذي أصبح" يقدّم للقارئ معنى متعددا؛ أي إمكانية متنوعة لأكثر من معنى، ومن هنا منشأ الغموض. فالغموض نتيجة لاهتزاز الصّورة الثّابتة في نفس القارئ لعلاقة الدال بالمدلول" (21)؛ وبمعنى آخر يتعامل الشّاعر الجديد مع ظلال الكلمة الواحدة، فيصفها بغير اسمها المعتاد حتَّى "يجعلنا نتعرّف عليها من جديد، يخلع عنها ما ألفناه من أوصـاف؛ كي يكسـوها مرّة أخرى فتتجلى أمامنا؛ فهو خالق دوال تعيد تكوين مدلولات" (22)، لم تكن بذهن القارئ، فيندهش بها ويستمتع بقراءتها.
إنّ الشّاعر في لحظة بوحه (***) يستدعى كل ما في جعبته للتّعبير عمّا يجيش في خاطره، فيكون كلامه مزيجا من غموض وتعقيد، تماه وتحليق في سماء اللّغة الشّعرية "المشحونة بدلالات مراوغة إلى حدِّ كبير، ممّا يُصعّب الرّسالة ويجعلها مفتوحة" (23). ما جعل المتلقّي يتفاعل معها، باعتبارها نصا، ويجنح إلى أن" يفك شيفراته ويملأ الفجوات الموجودة فيه، وعليه أن لا يفهم المعنى فقط؛ بل عليه أن يفهم وجهة نظر الكاتب، و يشارك في وجهة النّظر هذه" (24)، ويصنع معه المعنى المراد.
فالقارئ دائما تتوق نفسه إلى معرفة ما يمسّ تجربة الشّاعر الذاتيّة، وبالتّالي تحتّم عليه أن يتحمّل تعب وعناء الشّاعر في عمليّة الإبداع والخلق(25)، وتفسير معانيه المخترَعة(26)، الغائرة في البِنية الجوانية الدّاخلية للنّص الشّعري، ومن ثمّ كان النّص نتيجة خلق بين الباث و المتلقّي على السّواء.
تتعالى إشكالية المتلقّي في النّقد العربي المعاصر على فهمه للنّص الشّعري الحديث والمعاصر، المغدق بالغموض والإبهام، وكأنّ قراءة القارئ المعاصر أضحت بلا فائدة، يقرأ لكنّه لا يفهم ما يقرأ، الأمر الّذي أحدث قطيعة بين الشّاعر والمتلقّي شلّت أعضاء العمليّة الإبداعيّة، وهذا ما حرّك الوعي النَّقدي المعاصر إلى رصد أسبابها، فكان من جملتها غياب المرجعيَّة الثَّقافية للمتلقّي .(27)فالنَّص الشّعري الجديد لا يُلقى للقارئ جاهزا يعرفه كل النّاس، وإنّما يقتصر على فئة من القراء أصحاب القدرة على التّأويل والتّفسير.
تلعب المرجعية الثّقافية دورا بالغا في كشف معاني النّصوص الشّعرية (28)الغارقة في نهر الغموض (الفنِّي) (****)، وتأويلها عن طريق ملء الفراغات ورتق الفجوات، عبر توالد الدّلالات وتناسل الأفكار، وفق مسلكية استدلالية(29). فالشّاعر الحالي في تعبيره عن قضايا ومشكلات عصره وانطلاقا من أزماته النّفسيّة الّتي يعيشها، وأمله في إبداع عالم جديد "عالم سحري طالما حلم به دون أن يلقاه، أو يتعرّف عليه، عالم غير محدّد؛ لأنّه عامر بالأمل والشّوق إلى حلاوة الحبّ" (30)، يجنح إلى توظيف الغموض بطريقة أو بأخرى - غموض فنّي، أو إبهام -وذلك نتيجة لاتساع هذه القضايا المعبّر عنها.
إنّ قارئ هذا النّوع من النّصوص الشّعرية الغامضة يجدها مسهبة بالرموز والإيحاءات، لكنَّها "غموض من النّوع الّذي لا يَحول بينه وبين الاستمتاع بما يقرأ، فهو غموض يشفّ حتّى يغدو
جذّابا مؤثّرا يطيل أمد التأثير الّذي يشجّع القارئ على إعادة النّظر في القصيدة ليكتشف في كل مرّة يقرؤها فيها شيئا جديدا" (31). فيبقى مع القصيدة الواحدة يتنسّم عبق الشّعرية منها، النّابع من الفيض الدّلالي للمعنى الواحد (32)، فيزداد تأثرا وإعجابا لثراء تأويلها، ويحسّ بالقلم الَّذي كتب هذا النّوع من الشّعر ويتأثّر به.
إنّ جمال النَّص الشّعري متعلّق بهذه القراءات المتتالية، فالشّاعر دائما يفسح المجال للمتلقّي غاية ملء بقع البياض، و استنطاق الغياب ومحاورة المسكوت عنه (33)، حتّى إذا تمكّن من كشف رموزه أعجب به واستجدّ حلاوة هذا الأسلوب المغاير. هذا ما أقرّه النّاقد العربي عبد الرحمن القعود بقوله: "إنّ القصيدة الحديثة لا تمنح دلالتها له-للمتلقي/القارئ- وإنّما هو الّذي يمنحها الدلالة بإنتاجه لها" (34). فتوليد الدلالة هنا يقوم على الغموض الفنّي المحمود.
كخلاصة نقول:
إنّ الغموضَ خصيصةٌ مهمةٌ في القول الشّعري، ومستوى من مستويات الشّعرية في النّص الإبداعي وكفاءة من كفاءات اللّغة. يبعثه الشّاعر للمتلقّي الّذي يكتشفه بالفهم والتأمّل، حتَّى إذا بان المستور شعر بمتعة النّص الغامض ولذته. فهو إحياء للنّصوص وحمايتها من الزّوال. كيف لا ومازالت قصائد كبار الشّعراء كالمتنبي (ت 354هـ) تؤثِّر في النَّفس، وقد مضى عليها مئات السنين؟!. منها قوله:
أَنَاْمُ مِلْءَ جُفُوْنِي عَنْ شَوَاْرِدِهَا وَيَسْهَرُ الْخَلْقُ جَرَاهَا وَيَخْتَصِمُ